هل هي نهاية الأحزان في المخيّمات أم بداية لفصل جديد؟

أما وقد وضعت المواجهات التي دارت رحاها اخيراً على مداخل مخيمي نهر البارد وعين الحلوة اوزارها وعاد الهدوء المشوب بالحذر ليخيم مجدداً فان السؤال الذي ما زال حاضراً امام المعنيين بهذا الملف الشائك سواء من الجانب اللبناني او الفلسطيني هو هل هي نهاية "الاحزان" أم فاتحة جولات مواجهة مرتقبة آتية ساعتها ولا ريب؟
ورغم أن كلا الجانبين أطلقا خلال الايام الاخيرة مؤشرات توحي بالاطمئنان الى جدية المعالجات والى ان ما حصل قد انطوى فان ثمة من المبررات والمخاوف ما يسوغ طرح هذا السؤال والتعامل معه بجدية.
ولعل في مقدم هذه المبررات ان الاحداث الأخيرة كشفت كثيراً من الحقائق والوقائع المخيفة تتصل مباشرة في الشأن الفلسطيني في لبنان على نحو عززت المخاوف، وأولها ضعف المرجعية الفلسطينية التي يمكن ان تتولى لاحقاً عملية التنسيق والضبط والربط لدرجة ان ثمة من يقر بأن القوى والشخصيات والفصائل التي كانت حتى الامس القريب تقدم نفسها على أنها ولية امر اللاجئين في لبنان وانها تنطق بلسانهم قد ظهرت بفعل الاحداث الاخيرة على انها واجهات يعرفها اللبنانيون بفعل التقادم وتجارب السنين الخوالي اكثر مما يعرفها سكان هذه المخيمات ويشعرون بحضورها وتأثيرها عليهم.

واذا كانت فصائل وقوى فلسطينية في وقت من الاوقات "سيدة" الساحة الفلسطينية في لبنان، باتت منسجمة مع نفسها لدرجة انها تقر بأن حضورها الفاعل قد تقلص الى اقصى الحدود، فان ثمة قوى اخرى فوجئت بمدى التآكل والترهل الذي اصيب به حضورها، وفوجئت بما استجد على الشارع الفلسطيني من تمدد وانفلاش. وعليه فان هناك من يرى بأن مسارعة قيادة السلطة الفلسطينية الى ايفاد احد رموزها الذين يعتبرون انفسهم يملكون مفتاح اسرار الوضع اللبناني الى بيروت اخيراً كان محاولة لمعالجة الترهل الحاصل على حسم حضور حركة "فتح" والقوى الدائرة في فلكها اكثر مما هو لمعالجة اشكال وتوتر بدء الثورة بين السلطة اللبنانية ومجموعات من سكان المخيمات.

ولعل المفاجأة الكبرى في هذا السياق كانت بالنسبة الى حركة "حماس" التي حاولت طوال الاعوام الماضية ان تكرس حضوراً وازناً وفاعلاً في الشارع الفلسطيني في الساحة اللبنانية لكن الحصيلة لم تكن على قدر حجم الآمال والتوقعات، خصوصاً انه تبين لاحقا ان القوى والتجمعات السلفية والاصولية سرعان ما كانت تجذب الذين كانوا يدورون في مناخات وفضاءات هذه الحركة، وذلك رغم أن الحركة حاولت ان تحاكي هموم الشارع الفلسطيني في لبنان من خلال تبنّيها جملة مطالب تعتبر اساسية للاجئين في لبنان وفي مقدمها الحقوق المدنية التي صارت المادة الوحيدة التي يرفع لواءها كل التنظيمات والفصائل بعدما انحسرت الاهتمامات الأخرى وغابت المسائل المتصلة بـ"العمل الفدائي" وتحرير الأرض.
في الاعوام القليلة الماضية بدأت الجهات اللبنانية المعنية بالملف الفلسطيني تتصرف على اساس انها ألقت عن كاهلها اعباء ما ينطوي عليه هذا الملف من مشاكل وواجبات خصوصاً بعد تكريس مستجد اساسي يتمثل في فتح سفارة لدولة فلسطين في لبنان وتعيين سفير وتوابعه. ولكن تبين لاحقاً أن ثمة بوناً شاسعاً من الفروق والاختلافات بين محلة الجناح حيث مقر هذه السفارة وبين الاحياء الرطبة والمكتظة بالناس والمشاكل في مخيم نهر البارد والرشيدية والبداوي وسواها من التجمعات السكانية الفلسطينية التي يتعدى عددها الـ18 تجمعاً تنتشر في طول البلاد وعرضها.

وبمعنى آخر زاد وجود السفارة الفلسطينية في بيروت ازمة الوجود الفلسطيني اصلاً، فلا هي شكلت مرجعية سياسية لكل اللاجئين بامكانها النطق بلسانهم جميعاً وتمثيلهم في حواراتهم مع الدولة اللبنانية لا سيما بعد بروز تحالف القوى الفلسطينية الذي يضم الفصائل التي ما برحت خارج دائرة منظمة التحرير، وزعمه أن له حصته المعتبرة من التمثيل فضاعت بذلك المرجعية، ولا هي انصرفت الى رعاية الشؤون الاجتماعية والصحية والخدماتية والتربوية للاجئين الذين مع وجود السفارة ظلوا على معاناتهم وعلى بؤسهم الاجتماعي وظلوا يشعرون بالتمييز الحاصل في العطاءات والتقديمات بين ابناء حركة "فتح" والذين لا ينتمون الى هذا الفصيل الذي ظل لفترة طويلة يقيم على اعتقاد فحواه انه يقبض على زمام الوضع في المخيمات وانه يستطيع ضبط حراكها او تحريكها ساعة يشاء، وهو رأي ثبت لاحقاً تقلصه وتآكله. وعليه ومع اشتداد الانقسامات في الساحة اللبنانية واستغراق اللبنانيين في صراعاتهم وتجاذباتهم لا سيما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري واستطراداً بعد ضعف قبضة الدولة اللبنانية وترهل مؤسساتها، بدأت الرؤى والنظرات تتحول وتتبدل حيال الوجود الفلسطيني في لبنان فاذا ما ارتفع منسوب الصراع الداخلي بدأت الاصابع تتجه الى المخيمات باعتبارها الخزان الاحتياطي لهذا الفريق او ذاك اذا ما فتح باب الصراع على مصراعيه.

وعندما اشتعلت حرب مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وتنظيم "فتح الاسلام" قال انصار 14 آذار ان السوريين وحلفاءهم هم الذين أوجدوا هذه الحالة وارادوها آخر سوار داخل الساحة اللبنانية.
وعندما اندلعت الاحداث في سوريا وظهرت تداعياتها تباعاً على الساحة اللبنانية، بدأ الحديث عن المخيمات الفلسطينية كمصدر من مصادر رفد المعارضين السوريين المتمردين على النظام بالسلاح والأعتدة لدرجة أن هناك من زعم ان المخازن التي ما زالت داخل هذه المخيمات أوشكت على النفاذ لكثرة ما نقل منها الى الساحة السورية المشتعلة خصوصاً بعدما ضبط الجيش المتمركز على مداخل مخيم عين الحلوة اكثر من سيارة محملة بالاسلحة والقذائف وهي في طريقها الى الداخل السوري عبر ممرات التهريب المعلومة. والفلسطينيون في لبنان الذين خرجوا بأسلحتهم من مخيماتهم عندما شعروا بعد عام 1973 بضعف الدولة ووهنها شعروا بالامس القريب بأن الامر نفسه والتجربة هذه المرة ذاتها تتكرر ولو على شكل ملهاة.

فالأكيد ان الفلسطينيين في المخيمات شهدوا صورة المسلحين بالعشرات في بعض احياء طرابلس وهم يطلقون نيران اسلحتهم بكثافة وراحة متخذين من آليات للجيش اللبناني ستاراً يحتمون به، وبَلَغتهم ولا شك الانباء عن انكفاء عناصر الجيش في منطقة عكار وهي صورة ولا شك مغرية للجيل الفلسطيني الجديد لكي يكسر حاجز الرهبة والخوف وبالتالي يمارس هذا المنسوب العالي من التجرؤ على الدولة ومؤسساتها، وبالتالي يجاهر برفضه لواقع معين يعتبره مجحفاً بحقه، ويسعى لفرض امر واقع جديد بشروط يحددها هو، مستفيداً بطبيعة الحال من "لعبة" توزيع الادوار والتهرب من المسؤولية التي تمارسها الفصائل الفلسطينية عندما تزعم ان ثمة طرفاً ثالثاً "متمرداً" هو الذي يؤجج الأوضاع.
واللافت في المشهد كله ان الفلسطيني الذي وجد في حرب مخيم نهر البارد محيطاً شرساً في معاداته له، يجد اليوم محيطاً مختلفاً متعاطفاً معه ومشجعاً له.  

السابق
إنسان أم مواطن؟
التالي
هدوء تركي يعكس تسوية تُعدّ لسوريا