بهدوء

نزل الصيف على بيروت. انتهى خريفها وشتاؤها الساحران. عاد الغبار وعاد المشي في شوارعها مقنناً بشروط عدة. الآن أحتاج إلى الفيء وانخفاض حدة الشمس، وأسباب طقس أخرى، كي أغادر بيتي، مستمعاً إلى الموسيقى، وأمشي متفرجاً على المدينة.
أمضيت فصلَي البرد الرائعين أمشي. صباحاً عند البحر، وظهراً على طريق الشام، وليلاً من الحمرا إلى وسط بيروت الى المتحف ففرن الشباك. مشيت كلما لاح لي وقت قصير، في شوارع الحمرا. أعبرها من أولها إلى آخرها وأعود، بلا هدف إلا الاستمتاع بأنني إلى هذه الدرجة أحبّ بيروت.
وهو مشي خفيف يسمح بتفقد الاشياء التي لا نراها في ركضنا اليومي البلا طائل. الاشجار الموجودة في طريقنا. دواخلها المتغيرة دوماً. الضجر على وجوه البائعات في محال بيع الثياب. والاعتداد في ملامح جنود فخورين بوسامتهم. العيون الناظرة في الارصفة. ألوان الورود على جدار الجامع ورائحة البرودة في الهواء. أشكال الغيوم في السماء، وملمس الجدار الخلفي الخشن للجامعة اليسوعية. الحياة عند بلس. الابنية الصفراء العتيقة في الاشرفية، يتدلى من شرفاتها الياسمين، ويتراءى لي أن صوت محمد عبد الوهاب يتسلل مع رائحة القهوة التركية من صباحاتها.

بيروت أحلى في هوائها الطلق، وأحلى في الشتاء. مدينيتها وهم يقتصر على شوارع قليلة، وعلى ما أريده لصورتها فيّ. مدينيتها تكفيني، وتغريني تلك الأنانية الدفينة بأنني حقاً سعيد لأن لا قضايا عظمى من تلك التي خاضها اللبنانيون قبل أعوام، تهز السلام الذي تعيشه. لا قضايا عظمى داخلية، غبية، كتلك التي أغلقنا وسط بيروت من أجلها، وقمنا بالسابع من ايار من أجلها. ولا قضايا كبرى يتحارب الناس بسببها في الشمال. ولا ارتباط عضوياً، حتى اللحظة، بالحدث السوري يدفع زلزاله إلى بيروت، ولا هستيريا سياسية تلحقها أخرى جماهيرية تكسر هذه الطمأنينة الرقيقة التي نعيشها في قلب الاضطراب السوري الهائل. بيروت محيّدة حتى الآن، تحييداً يفترض أن يدوم.

تواضعت بيروت. ربما عرفت أن الحدث السوري قد يعنيها لكن ليس إلى درجة التأثير فيه، كما ليس إلى درجة انفلاتها هي نفسها من أجله. باتت أكثر هدوءاً وأكثر حكمة. تعلمت من دروسها الكثيرة، أو أنني أريد أن أقتنع بأنها فعلت. انها تعلمت حقاً من احترابها الأهلي. قبلت بهامشيتها في الحدث هي التي لطالما لُقنت حتى اقتنعت بأنها الأهم في المنطقة. عرفتْ أن الهامش ليس مكاناً منبوذاً، وأن على الهامش تجري الحياة، في الغالب، بطريقة أفضل. آمنت بأن لا بأس بالهامش.
في هامشها تنغلق بيروت… ليس كشرنقة لأنها الآن أحلى من أن تكون ملفوفة بالخيوط. تنغلق على هدوئها تخبئه من حسد العيون. قد تكون خائفة، والخوف ليس عيباً. وقد لا تكون مهتمة إلا بنفسها هذه المرة. بالحياة التي فاتتها وهي تركض إلى خلف. من حقها. من حق بيروت أن تتمشى، فرحة بفصولها وبرقة هوائها، وبهامشيتها، وبأنها، لحظ حظها، ما زالت مهمشة ومنسية.

السابق
السفير: المصريون يختارون رئيسهم اليوم وسط حقل ألغام سياسية ودستورية!
التالي
الاخبار: سجال داتا الاتصالات: جعجعة بلا طحين