الفقر هو الذّل ..

.. ليس أسهل من الكلام عن الفقر، وليس أصعب من الابتلاء فيه، فالفقر هو العوز والحاجة، وهو الضعف الذي يشلّ الحركة، والحزن الذي يغتال الفرح، والبؤس الذي يحجب وجه السعادة، والليل الذي يطفئ نور الأمل..
الفقر هو الذلّ.. هو التبعيّة.. هو الصنميّة.. هو الانقياد الأعمى، والقطيعيّة الصمّاء، الفقر هو استقالة العقل، وجفاف المداد، وتجميل القبيح، هو المصانعة، والمملاءة، والمجاملة، والخداع ..
الفقر داء عضال، وسلاح فتّاك بأيدي الأقوياء، يشهرونه دائماً في وجوه الضعفاء، هو طريق المتسلّق نحو الحكم، ووسيلة الطّاغي لكمّ الأفواه، وعرش المستبدّ في دولة الطغيان ..

ربما كان للفقر شكل آخر وتوصيف مختلف، ولكن حتماً في غير زماننا هذا، فلربما كان وجهه جميلاً في بعض العصور، أو كان في بعض الأمم مدعاة شرف وفضيلة، أو لربما كان المبتلى به محفوظ الكرامة، عزيزاً بين أهله وقومه، لا يضيره نقص المال، ولا يسلبه الفقد رتبة، أو تلجئه الحاجة إلى بيع الضمير، أو يضطره الجوع للمساومة على عقيدة ومبدأ.
كان الفقير في دولة عليّ (عليه السلام) عزيزاً، لا فاقة تستضعفه، ولا خوفاً يتملّكه. كان الفقير جريئاً، مطالباً بحقّه، معبّراً عن رأيه، موافقاً ومخالفاً، موالياً ومعارضا.
ولكن أين نحن من عليّ (عليه السلام) ..وأين هي دولة الحقّ والعدالة المرجوّة في هذا الزمان ؟!.

يا أحبّائي : الفقر هو ذلّ هذا العصر!.. ألا ترون معي كيف يُهان النّاس على أرصفة الجوع، ويراق ماء الوجه على إيقاع محوريّة الإنسان؟!..
ألا ترون كيف تكثر الشّعارات البرّاقة في زماننا ويقلّ المحسنون؟!..
ألا ترون كيف تُشترى المواقف والأصوات بالصّرر البخسة؟!..
ألا يستفزّكم استرحام امرأة على باب دعيّ يشارطها الإحسان بالأثمان ؟!..

..هذا زمنٌ رديءٌ تتهاوى فيه القيم، وتؤكل فيه آلهة التّمر.. هذا زمن تسقط فيه الأقنعة عن وجوه الكذبة، الذين يمتطون ظهور النّاس بالتّجويع، ويمنّون على الفقراء بأرغفة عجنت بأيدي الشقاء وماء التّعب ..
الفقر هو العقبة الأولى في درب الخلاص، والتمرّد هو شرط العبور إلى زمن الحريّة، أن تكون أنت رهن بتحرير عقلك من سطوة المحجّرين عليه، بتحرير أمعائك من خبز السلاطين، بتحرير يديك من التسوّل على أبواب الطّغمة، بتحرير قدميك من السّعي إلى مجالس الظلمة، بتحرير عينيك من النّظر في وجوه العتاة، بتحرير أحلامك من زنازين الطغاة..

يا صديقي الفقير.. ليس زهداً ولا طريقاً إلى الله هذا الذي ترضاه لنفسك، وتتجمّل به تقًى وتعفّفا، وتحاول أن تجرّعه عقول أطفالك الصغيرة، أو تبلسم به خاطر زوجكَ القنوع المسكينة..
يا صديقي الفقير.. لا تُعِر أذناً للذين يزهدونك بالدنيا ويرغبونك بالآخرة، ولا تشترِ من الخطباء قصورا، ولا يزوجونك حوراً ويلبسونك حريراً.. فأولئك كتبة الدّيوان، ومقوّية السلطان، وأعداء الرحمان..
يا صديقي.. إنّما تُعمَر الأرض بالعدل، وتُدرَك الجنّة بالأسنّة والحِراب!..

 

السابق
يَسْتَفزُّنا نومكَ الأبديّ
التالي
ميقاتي: لبنان خسر بغياب غسان تويني رمزا وطنيا أصيلا