يَسْتَفزُّنا نومكَ الأبديّ

لن تضيع الطريقُ من قدميكَ إلى عيناثا، دليلُك حرفٌ، وحبرٌ وعِمَّةٌ ودمٌ وقاماتٌ لشواهد الشهداء.
عيناثا فراشةُ الحبِّ، وأغنيةُ الريح، وتمرُّدُ القصيدة. هي الولودةُ التي أنجبت حشداً من الفقهاء والعلماء والشهداء والأدباء والشعراء.
بهم حوَّرت وأوّلت أبجدية أيامها، وسمّرت شمسها، وحوّلت عويل الماء في أرحام عيونها إلى أكوام ورود وساحات جدلٍ ورفوف حمام.
وبنت جبيل توأم عيناثا وشريكتُها في الهمِّ وفي السعي وفي الحلم، في الأمل وفي الفرح وفي الألم، هذه التي أبت اليوم إلاّ أن تغمسَ إصبعها في الجرح ويرفأَ إلى روحها الحزن وتسكُب على صفحة جدرانها الوجع. من نتاج عبقِ هذه العلاقة ومن هذا النسل وتلك السلالة منير حمودي.
صديقي منير… بأيّ كلام أُناجي روحك والتي هي الآن مسلك لزحف صبح حالم بباقة حبٍّ وبمهرجان ضوء. وأنت، أنت المغدقُ في بلاغة الصمت، المتوسِّدُ نزيف الوقت، الحاملُ أرجوحةً من الكلمات على أهداب الضوء، المتوسِّلُ رغيف قصيدةٍ عجنته كفُّ الأرض التي اشتعلت بقناديل الحبّ والشعر واللغة والشهادة والمقاومين.
يا صديقي.. قم وأنهض، اخترق صمتك.. وحدك الرافضُ أن تكبو اليوم، فالأسود الطاغي على جسدك جعلك لوناً يستفيق عليه الوردُ وتشتهيه الغيوم ندًى لزهر الصباح.. يا منير.. لِما أصرَّيت على استفزازنا بنومك العميق وبإقلاع مراكبك المفاجئ؟
عشقناك شاعراً يركض بقوافيه في هذا الزمن اليابس كحصان يرتطم بجدران الريح، يكتب المستقبل بلغة طافرة متمرِّدة كعصفور سجين أُطلق للتوّ، يُطرِّزُ الأناشيد للحبّ للسيوف وللعشاق ولزمن لا نرى ملامحهُ بل ربما نسمع وقع خطاه!!
يا صديقي.. ها هي أصواتنا تصدح بنشيدك تهتف باللغة التي أحببت وعشقت، لكنها المرّة تتدلّى من كوة في سقف الجرح، فإن تعثّرت وجادت عن سياقها وكاد يؤتَى على رحيقها، فإلى من نولي وجوهنا لنطمئن؟ كنت عرّاف مسافاتها، وسادِنَ قِفارها وعاتياً بما ملكت يمينك من ناصية جهاتها، وأنت الذي كتبتها على الهواء أحلاماً لا يراها الليل!!
ونحتَّ بإزميلها على جذوع الأُويقات ذكريات وهنيهاتٍ لا تهرمُ ولا تزول وفكّيت بأناملها الناعمة ضفائر السنديان وغرزت في صمته المُطبقِ رهافة الذوق وأهداب الكلام وزرعت مصابيحها على الدروب الموصلة إلى مداخل العقول رشقت العتمة بكتل من حمم الضوء وكشفت الغرابات المستورة في أشيائها المكشوفة.
في هذه العجالة ومن موقعي لا أستطيع أن أطال من سيرة منير حمودي إلاّ طرف الثوب.
فسهوبُ حكايته تستحثُّ وتهْمُزُ دائماً ودائماً خيلَ الكلام، إلاّ أن صخرة الوقت تسدُّ عليَّ الطريق فيا صديقي منير.. ها نحن نردُّ إليك ديون السخاء، سخاءِ القلب والروح والفكر والضمير وأنت العروبيّ الناصعُ، المُنتمي إلى شجر الكبرياء، الغامسُ في ماء القناعة خبزَ أيامك ولياليك، النظيف القلم والكفِّ والحبر وزيت القنديل ثق بأننا لن نسلوكَ وسنبقى أوفياء لذكراك، وأنت الذي نزلت إلى بئر ذاكرتنا على حبل متين من الوداعة واللطافة والنثر وأناقة اللغة والشعر لذا سنخرج من رحاب الحزن الطَّلْق إلى فضاء واسع من الاحتساب والصبر الجميل وليرحمك الله وإنا له وإنا إليه راجعون.
  

السابق
انسيتون جذّابة في حفل تكريم ماكلين
التالي
الفقر هو الذّل ..