الحكم الواثق بنفسه

الحوار أدنى بمراتب كثيرة من المؤتمر التأسيسي. وأهم ما في الحوار، المتحاورون أنفسهم ومدى أهليتهم للقيان بهذه المهمة الراقية والاستثنائية في أهميتها. ومن أبسط شروط المحاور أن يكون إنساناً سوياً ويتمتع بحواسه الخمس الحسية ومرادفاتها المعنوية، وهي: النظر والرؤية. السمع والفهم. الشم واستشعار روائح الأخطار الآتية. اللمس والقدرة على التمييز بين الحقائق الصحيحة والمزيفة. الذوق وإدراك طعم مكوّنات الطبخة المعدّة لتقديمها على مائدة الحوار. ولم يكن الحوار غائباً يوماً عن فضاء الطبقة السياسية المتوارثة والتي تعيد إنتاج نفسها منذ الاستقلال وما قبله والى يومنا هذا. ولم يكن الحوار غائباً أيضاً بين مكوّنات الحكومات المتعاقبة منذ نشأة الكيان وفي كل مراحل قوته وضعفه. وتقوم الحكومات وتنهار في لبنان نتيجة حوار يجري خارجها أو داخلها. ولا ينجح أي حوار لا يكون فيه المحاورون جميعاً على حد أدنى من المستوى نفسه من الحكمة والكفاءة وصفاء النية وصلابة الإرادة، وسلامة القصد. وكل الفشل الذي حصده لبنان في تاريخه الاستقلالي الطويل يعود الى هذا المستوى والهابط من الحوار الذي أنتجوه، والى مستوى المحاورين أنفسهم الذي كان الكثير منهم يفتقر الى حواس أساسية فيه.

المؤتمر التأسيسي مطلوب اليوم قبل الغد، كما كان مطلوباً دائماً في كل المراحل الزاهية أو الباهتة التي مر بها لبنان. وكل مَن يريد أن يفهم معنى المؤتمر التأسيسي عليه أن يقرأ أولاً محاضر مناقشات الوحدة للمؤتمر التأسيسي الأميركي، ويتعمق في شخصيات أولئك الرجال الأفذاذ الذين قادوا ذلك الحوار، وأنتجوا ووضعوا أسس الدولة التي تتزعم العالم اليوم. وليس في أفق الطبقة السياسية في لبنان، داخل الحكم وخارجه، الكثير أو حتى القليل من تلك الشخصيات الفذة القادرة على وضع مصلحة الوطن فوق مصلحة زعاماتها الطائفية أو المذهبية أو منافعها الذاتية الفردية أو الفئوية. وليس بينها أيضاً الكثير أو القليل من الشخصيات ذات الفكر الوطني والقومي المستقل والمستنير الذي ينظر أولاً الى القضايا الكبرى والمصيرية للوطن والأمة. والحوار الدائر في لبنان بين معظم مكوّناته السياسية يدور حول مسائل يومية صغيرة، ومصالح آنية وعابرة، ويعجز عن التوصل الى توافق بشأنها، فكيف نأمل بحوار مصيري في مؤتمر تأسيسي على هذه الدرجة من السمو والتأثير التاريخي؟!

هذه الحكومة الحالية في لنبان، مثل الحكومات التي سبقتها، غير قادرة على قيادة أي حوار لا على مستوى مؤتمر حوار، ولا على مستوى مؤتمر تأسيسي. وهي تقوم بحوارات منذ قيامها حول أمور بسيطة وعادية، وليست مفصلية بالمفهوم التاريخي، مثل اجراء تعيينات ادارية أو قضائية أو أمنية، أو مثل الاستجابة لشؤون معيشية ومطلبية، وتعجز عن ذلك… فكيف نأمل منها أن تنجح بقيادة حوار على مستوى الوطن والأمة؟! السمك يفسد من رأسه، وكذلك الحكومات! وفي الأمثال: جييش من الأرانب يقوده أسد يهزم جيشاً من الأسود يقوده أرنب! فكيف بحكومة قيادتها غير مطمئنة، وتلتفت وهي خائفة في كل اتجاه، وتطغى على اهتماماتها هموم الأزقة والزواريب في المدينة على هموم الوطن والأمة؟!
ينتصر فقط الحكم الواثق بنفسه، لا الحكم المذعور من ظله!  

السابق
ماذا قال ميقاتي للسلفيين ؟
التالي
لو كنت إسرائيلياً منزعجاً