هذا هـو لبنانكم.. فخـذوه

قبل اثني عشر عاماً، قدّم لبنان نموذجاً للانتصار على العدو الاسرائيلي. رأى العرب المعجزة وصدّقوها. عرف العالم بها ودُهش: «اسرائيل العظمى» هربت من «وادي الدموع» مذهولة… وحدهم اللبنانيون، انشطروا نصفين: نصفا يمسك بالزناد ويطالب بالمزيد، ونصفا يعلن «وداعاً للسلاح»… وأهلا «بالسيادة والاستقلال».
بعد اثني عشر عاماً من التحرير، يقدم لبنان نموذجاً للفشل في مواجهة استحقاقاته الداخلية والاقليمية. الدولة موزعة على دويلات الطوائف، السلطة خرقة سياسية مملّعة، المؤسسات على قارعة التسول والقوى السياسية في حالة احتراب أهلي يكاد يصل إلى السلاح.

… ولبنان المنتصر هذا، يسير من سيئ إلى أسوأ. الفرح الذي انتشلنا من بؤس الهزائم العربية، يتغيب عنا. الخوف والحزن والقلق، مثلث الانهيار اللبناني يحيط بنا. والأيام السالفة، شواهد على حال اللبنانيين: «إننا نستعد للأسوأ».
بعد اثني عشر عاماً، تصيدت المذهبية بندقية المقاومة، وافترت عليها قبائل النفط، وشوهت صورتها، سلفية مضرجة بالفقه، ونيوليبرالية متقنة التمويل، من مصرف عوكر، نقداً وعداً. وبعد اثني عشر عاما، ظهر ان الانتصار كان نكبة على عرب الأنظمة، ومذاهب الردة اللاقومية، وبيادق الطوائف، ومندوبي السفارات والقناصل، وأحزاب الكيانيات التي تبارت في رفع شعار «لبنان أولاً» و«مصر أولاً» وكل شيء أولا، كي لا يبقى للمقاومة حضور في أجندة العرب ونصف اللبنانيين، الذين يشبهون «عرب الاعتدال»، ثبت أن الهدف الأسمى عند هؤلاء هو الهزيمة، وان المصيبة الطاغية، هي الانتصار.

وثبت أنهم أهل أصل ووفاء لتقاليد القيادات السياسية العربية الغابرة… تلك القيادات، كانت تبني على الهزيمة. المقدمة الأولى في أطروحتهم السياسية: «نحن مهزومون»، وبناءً على الهزيمة فلنعوض، بالكلام على فلسطين، ولنصوّب بنادقنا وقمعنا ضد الفلسطينيين إن تجرأوا على وضع الإصبع على الزناد. فلسطين صالحة في اللغة. تتصدر الخطاب السياسي والبلاغ الرقم واحدا. أما إذا حاول الفلسطيني ان يعلن حقه الفلسطيني بلغته الخاصة وفعله الخاص، فتطلق السلطات العربية كلاب حراستها، للتلصلص عليه، خوفاً من أن يسلك طريق العودة إلى فلسطين، ولو كان بدمه.

ولا عجب في أن الفلسطيني اللاجئ، ظل منبوذاً ومضطهداً ومستقلاً وطريداً وهامشياً ونزيل سجون. ولا عجب في أن الفلسطيني، منذ ستينيات ما قبل النكسة، قد امتشق سلاحه ليقرع برصاصه المستحيل العربي، وقد وجد نفسه سجينا أو متهما أو قتيلا: مجازر ايلول، سجون الانظمة، اخراج المقاومة من بيروت «لبنان السياحي»، وصولا إلى حصار «أبي عمار» في المقاطعة، على مرأى من عرب «الثورة» وعرب «الهزيمة»، و«عرب المذاهب» و«عرب فيلتمان».
منذ هزيمة ميسلون، والنظام الرسمي العربي، يبني على الهزائم، ولقد كانت الهزائم كثيرة وعميقة وجذرية. غير أن نخبة ثورية في لبنان، رفضت أن تبقى على الحياد في ما خص فلسطين، توقفت إلى جانب الفلسطيني، ومعه، وأحيانا أمامه، كما وقفت مع ثورة الجزائر، ومع بنزرت في تونس، ومع عبد الناصر في صده العدوان الثلاثي على مصر… هذا اللبنان العربي، كان ينبض فلسطينياً.
اللبنانيون، في نخبهم آنذاك، لم تدجنهم الهزائم. امتشقوا سلاح المقاومة منذ العام 1968 بعد النكسة تحديداً وفي اللحظة التي ولد فيها «الحلف الثلاثي»، الذي كان تتويجاً للبناء على الهزيمة. ودخل لبنان بعدها، في تيارين متعارضين: تيار المقاومة وتيار التسوية والحياد. تيار العروبة وتيار استدعاء العدو. ومنذ ذلك الحين، ولبنان يتأرجح بين منطقين: البناء على الهزيمة، أو البناء على الانتصار.

نحن نعيش في لبنانين: لبنان المقاومة، ولبنان المساومة. ولم ينتصر أي فرع من لبنان بعد. المقاومة تذخر والمساومة تصوّب على السلاح. والبلد يترنّح بين تيارين. وعمر هذا الترنح، من عمر المواجهة بين لبنان العربي (ليس بوجهه ولسانه ولغته ودينه وحضارته، بل العربي بقضاياه القومية والوطنية)، وبين لبنان الذي «يعطيك من طرف اللسان عروبة»…
إنما، للأسف الشديد، وبسبب البنية الاجتماعية اللبنانية، فإن هذين اللبنانين، يبنيان المواقف في أحضان مذهبية راهنا ـ وكانت طائفية في ما سبق ـ تنعكس في تحالفات اقليمية متعسكرة في خندقي «الممانعة» و«المسالمة»، وتنعكس تخريباً في مرافق الدولة ومؤسساتها والشعوب المذهبية المقيمة فيها.
منذ اثني عشر عاماً، كنا نحتفل بعيد الانتصار.
بعد اثني عشر عاما، صرنا على حافة الهزائم، ونرقص غضباً بين الإطارات المشتعلة، ونحاذر المرور في مناطق باتت عناوين المقيمين فيها مذهبية.
فأي لبنان هذا اللبنان؟
أي انحناءة للبنان، لدى المقيمين فيه، ممن يدعون لبنانيين؟
إنه لبنان الذي أخلى الوطن، لمصلحة الطائفة، وأخلى العَلَم لمصلحة العمامة، وأخلى السياسة لمصلحة الآية.
نحن اليوم في الدرك الأسفل، نركض إلى الهاوية بأقدامنا، لا قدرة لأحد على لجم الانحدار او إبطائه. اننا نسير بسرعة جنونية إلى «البناء على الركام».
وهذا الوارد أعلاه، ليس مرثاة لغوية. الواقع أشد سوءاً. والدليل، أننا نعيش في بلد السيادة فيه للكذب، التفوق فيه للغدر، والتقدم فيه للطعن والمميز فيه السفالة والطاعن في الفساد حتى الثمالة، ولا تجد فيه البتة، خشبة واحدة للخلاص.
كيف السبيل إلى حياة سوية، وأنت تعيش في غابات من الكذب المفترس. لا تصدق إلا ما يحلو لك. أو ما يحك على جربك المذهبي والطائفي؟ لا تصدّق السياسيين طبعاً. فهؤلاء، في كل كذب يهيمون. لا تصدّق قضاء بالتراضي، لا تصدق أمنا «بالتفاهم» (أفتى به وزير الداخلية). لا تصدق مصدراً، لا تصدق إعلاماً، لا تصدّق مرجعاً، أكان روحياً (بلا روح) أو زمنيا… تعيش في بلد بضاعته الكذب بكل فجور، ولكل فريق جوقة كاذبيه.
إنها لحظة يليق فيها رثاء حالنا، وبلوغ حالة «التسليم»: «هذا هو لبنان…».

في اللحظة التي أغلق فيها الاسرائيلي بوابات العبور الحديدية، كان الظن، في نشوة الانتصار، ان «لبنان القوي بسلاحه» سيرث «قوة لبنان في ضعفه». غير ان الاحداث المتناسلة منذ فجر الانتصار، تشير إلى أن قوته مشكلة، وضعفه مشكلة، ولا منزلة بين المنزلتين. أي، لبنان القوي بمقاومته في مواجهة اسرائيل، يعيش مع لبنان الضعيف، الذي جعل من ضعفه الطوائفي، سلاحاً منتشراً قوياً، يصوّب على سلاح المقاومة بلا كلل لنزع شرعية القضية عنه، وجعل الشرعية مستمدة من مذهب جماعته الحاضنة.
لم تستطع اسرائيل العبور من الجنوب. حاولت في العام 2006. اقتحمت براً وقصفت جواً وبحراً، وفشلت. عادت إلى قواعدها بنكسة كبيرة. غير ان الرياح التي هبت على المقاومة من «لبنان الآخر»، ومن عرب الاعتدال، كانت أشد شراسة وإنهاكاً واستنزافاً، من حروب الأعداء.
وهذا بالمناسبة، لا يقع في باب الخيانات، بل في باب الخيارات، إذ يستحيل ان تخوّن نصف شعب، لكنك تستطيع ان تختلف مع نصف شعب، على أن تحل الخيارات بالديموقراطية… وليس بالبنادق التي تغتال القضية وتنصر المذهبية، أو باستجداء القرارات الدولية والتدخلات الأجنبية المنحازة، والقوى الاقليمية المتنازعة. وبما ان الديموقراطية في لبنان على شكل اللبنانيين، تصير المؤسسات حلبات صراع لا قدرة على ممارسة التصويت، الذي تشلّع نتائجه، ما تبقى من نسيج البلد.
التعويل إذاً على الحوار! نظرياً، هذا من أسهل الأمور، يجلسون خلف طاولة، يتناولون الموضوعات الشائكة، يعبسون، يبتسمون، يقترحون، يؤلفون نصا توفيقياً… ثم ينصرفون… والتنفيذ برسم التأجيل.
حتى هذه الطاولة، باتت مستحيلة. إذ لا بد من استئذان أهل الحل والربط إقليميا. في عز الاشتباك السعودي الايراني، وفي عز الأزمة السورية، التي اندفع اللبنانيون بكل مذهبياتهم، لنصرة أنسبائهم في صفوف النظام أو في صفوف الثورة.
اللبنانيون خائفون من اللبنانيين وليس من الغرباء.
اللبنانيون خائفون، لأن السياسيين، أصحاب ثقافة التسوية، كانوا يتكلمون ويتصرفون كأصحاب العمائم… ويبدو ان الأصيل المعمم، وجد في نفسه صفة تمثيلية أنقى، وصوتاً أكثر تعبيراً ونفاذا، فقرر ان يتصدر الصفوف السياسية… وللأسف، ليس بين العمائم حمائم.
إذا… «هذا هو لبنان»، فخذوه عنا.

السابق
حرب دويلات… لبنان 
التالي
نائب تعرض للاهل من الاهالي !!