استراحة محارب

يستفيد من الهدوء المستقطع ليعود إلى بقالته في حيّ باب الحديد. يتسلل بعض المارة إلى أعمالهم صباح أمس، مستبقين دخولهم الشارع بلصلصة سريعة. تنبه قرقعة الباب الحديديّ الجيران إلى وصوله. فتتهافت عليه عبارة «السلام عليكم يا حاج» من جهة، و«الله يقويك» من الجهة الأخرى. كان يكفيه مرور صورته نحو عشر ثوانٍ على المؤسسة اللبنانية للإرسال الأحد الماضي ليغدو شخصية مهمة في نظر الجيران.

البعض حظي بفرصة مشاهدته، والبعض الآخر شاهده بالسمع. يضحكه تصبيحهم عليه اليوم كأنه شخص آخر. ويزيد فنجانا الشاي، اللذان يصلان إلى الدكان تقدمة للمناضل من أحد الجيران، وسع ابتسامته. لكن سرعان ما ينغص آخرون على المقاتل فرحته. فتطارده نظرة جار اضطر إلى رمي مخزونه من اللحمة بعدما أفسدها الإقفال غير المحسوب، قبل أن تطنّ في أذنه اللطشة: «إذا الجنرال رجع عالدكان، يعني الأوضاع استقرت بإذن الله». ويضاعف جار آخر سماجة اللطشة: «إيه، خلصنا. انحلت كل مشاكلنا». يتغير مزاجه. حين يهدأ الرصاص، ينتهي الاستعراض ويجد المقاتلون أنفسهم أمام أسئلة محرجة. لا يمكن أن تكد جنباً إلى جنب ابن جبل محسن في العمل قبل الظهر، وتتبادل وإياه إطلاق الرصاص بعد الظهر. «الزنديق» زنديق قبل الظهر وبعده، فضلاً عن أن مخيمات تدريب حزب الله ومقاتليه، كما الأراضي السورية، بعيدة عن أراضي المعارك الطرابلسية. يبدأ المقاتل صباحه هنا بطلاً، ثم تتآكله التعليقات القاسية ليتقلص حجمه. يفتقد المقاتلون الثقة بالقضية التي يقاتلون في سبيلها. ويصعب في لحظة مماثلة إيجاد مقاتل يعدد أسباباً واضحة تدفعه إلى إطلاق النار من شرفة منزله على شرفة المنزل المقابل. فلا طريق القدس يمر بالتبانة، ولا إسقاط النظام السوري ولا نزع سلاح حزب الله ولا إقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. يستفيق المقاتلون في اليوم الذي يلي المعارك هنا على أن الحرب الأهلية تمر بالتبانة والاقتتال السني ـــ السني وزيادة العقد تعقيداً والفقر فقراً.

يحار المقاتلون في أمر من معهم ومن عليهم. كيف يُسلم شادي المولوي بهذه الطريقة؟ ولماذا تُسلم قبله شحنة الأسلحة؟ وما الذي دفع الرئيس سعد الحريري إلى التراجع بهذه الطريقة، مكثفاً اتصالاته بأصدقائه المشتركين مع الرئيس نجيب ميقاتي للفت نظر الأخير إلى إيجابية البيان الحريريّ؟ من أنهى التنسيق بين أجهزة الأمن الدولية وفرع المعلومات لمصلحة تنسيق جديد بين الأجهزة نفسها واستخبارات الجيش في قضية الباخرة، والأمن العام في قضية المولوي؟ وتكر الأسئلة: لماذا التعبئة من أساسها إذاً؟ لماذا يوزع السلاح؟ لماذا يستحضر الثأر من 7 أيار في كل إطلالة حريرية؟ لماذا تعضون على جروحنا وتسقونها المنكر حين تلتهب؟ والأهم لماذا تخجلون بنا حين نعبّر علانية عما تقولونه في السر؟ ليس وقف إطلاق النار هنا إذاً إلا محطة إضافية في سلسلة الإحباط الطويلة. هنا الجنرال أو الحاج يعود منهزماً إلى متجره. قبل الأحداث، كان يردد بفخر أمام الجيران في السوق الضيق إن العالم كله معهم، من الولايات المتحدة إلى أشرف ريفي، مروراً بالسعودية وقطر والكويت وسعد الحريري والقوات اللبنانية والمخيمات الفلسطينية. ثبت أنهم موهومون إذاً. ولا ينقصهم الآن إلا شماتة الجيران قبل الخصوم.

في الأسواق القديمة كما في سوق الخضر والأسواق المتاخمة للتبانة، يعدّ محظوظاً من تبلغ أرباحه عشرة آلاف ليرة في اليوم. ليس في هذه الأسواق متجر واحد للكماليات. يعيشون «كفاف يومهم». لهذا يغضبهم تسبب البعض في إقفال مدينتهم، وتنفير جيرانهم في الأقضية المجاورة أكثر فأكثر منهم. سابقاً، كانت طرابلس سوق عكار والمنية والضنية وبشري وزغرتا والكورة وبعض البترون. أما اليوم فزبائنها منها وفيها. أبناء عائلاتها الميسورة يفضلون «المولات» وما يشبهها على أسواقها الشعبية. يتكرر هنا في أكثر من دكان صغير الحديث نفسه عن تجربة الطرابلسيّين «كلّ شيء»: إمارة التوحيد الإسلامية، المقاومة الفلسطينية، النظام السوري، والثورات الداخلية. حتى تجربتهم للدولة اللبنانية في السنوات العشرين الماضية لم تكن موفقة إنمائياً ولا اقتصادياً ولا أمنياً. لهذا يبيع كثيرون أصواتهم عشية الانتخابات بمئة دولار، معتبرين أنها الوسيلة الوحيدة لعدم ذهاب أصواتهم هباء. خمول؟ ربما. يأس؟ ربما. عدم وجود ثقة (أو رغبة) في القدرة على تغيير العالم؟ أكيد. ملّ هؤلاء.

أسبوعياً، تنظم هنا منذ نحو عام عشرات التظاهرات المؤيدة للمعارضة السورية، داعية إلى اسقاط النظام. لكن أعداد المشاركين لا تتجاوز في أكبر هذه التظاهرات العشرين بالمئة ممن كانوا يصلّون في الجامع قبيل انطلاق التظاهرة. ويشرح أحد التجار أن قلة من أهل المدينة تعتقد أن المشاركة في مسيرة مماثلة تقدم أو تؤخر بما تشهده سوريا أو أي مكان آخر في العالم. فلو عاد الأمر للطرابلسيين، بحسب شاب آخر، لنظموا لعائلة شادي المولوي زيارة عند الرئيس نجيب ميقاتي أو المدير العام للأمن الداخلي، اللواء أشرف ريفي، ليتدبروا معهما أمر إخراجه من السجن أو فراره، كما حصل مع غيره. وفي كشك صغير يبيع كتباً وصحفاً عند مدخل السوق القديم من جهة الزاهرية، يبلور صاحبه الهرم هذه النظرية، قائلاً إن تجارب المدينة تؤكد أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

في المدينة مجموعتان: واحدة تدفعها جرعات الإحباط المتتالية إلى المزيد من الجنون. فلا يعود غريباً خروج شاب من وسطها يرقص على وقع طلقات رشاشه في شارع ما. وأخرى يدفعها اليأس من التغيير إلى خمول استثنائيّ أيضاً، لا يعود غريباً معه أن تتفرج مدينة بأسرها على خمسين مقاتلاً يجرّون خلفهم العشرات من أمثالهم ليقودوا المدينة على هواهم.

السابق
الاخبار: سليمان يقبل توقيع الـ8900 شرط إمرار مشروع الـ4900
التالي
المشروبات الغازية تهدّد قدرات الدّماغ!