13 نيسـان يوم عادي فـي بلد العجائب

يحل الثالث عشر من نيسان، ذكرى بداية الحرب الأهلية (1975)، كأنها ذكرى مضجرة، تكرار لمناسبة لم تجر الإفادة منها، فلا المحاسبة تمت، ولا المسامحة حصلت، ولا تنقية الذاكرة انطلقت، ولا عملية البناء جرت.. مثلما يجب أن تكون.
ما زالت الأمور كلها عالقة، عند أبواب أمراء الحرب أنفسهم الذين يديرون الشؤون السياسية والاقتصادية والأمنية، أو لنقل الذين فشلوا في إدارة الشؤون تلك، من دون أن يضجروا من وقوفهم الدائم والمتكرر على المنابر نفسها، وعند خطابات من دون فعل.
تنتج كل حرب انتظاماً جديداً عاماً، إلا حرب لبنان، فقد أنتجت فقدان الانتظام العام، وكل حرب تؤدي إلى نشر قيم جديدة، إلا حرب لبنان، فقد أدت إلى فقدان القيم السابقة، ونشرت الفوضى المستمرة، في جميع شؤون الحياة، وانشغل الجميع في البحث عن موقع خاص وعام، بمساندة خارجية ومن دونها، فعم الفراغ. لا ملف المفقودين والمخطوفين وجد صيغة للحل، ولا الإدارات وجدت من هو جدير بالإدارة، ولا المدارس وجدت من يكتب تاريخ بلاده لتلاذمتها، ولا الخزانة وجدت من يبحث عن موارد لها، بدل السحب منها، ولا الأحزاب وجدت طريقاً للتجدد.
ما بعد الحرب، وطن يعيش أبناؤه عصرهم وعلمهم ولغاتهم في المهاجر، وطن تحرر من الاحتلال الإسرائيلي ومن السيطرة السورية، من دون أن يستفيد، ويا للعجب حتى من التحرير. زادت نقمة شعبه على الطبقة السياسية، لكنه تماهى بها في نشر الفوضى، وفي الفساد. وربما يدرك أن كل تجاربه الصعبة لا بد أن تؤدي إلى كسر الحلقات المقفلة التي يعيش فيها.

إذا صدق معظم اللبنانيين في كلامهم، فإن نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة، ستكون متدنية جداً، وربما الأدنى في تاريخ الانتخابات، مهما كان شكل الدوائر الانتخابية. أينما ذهبت تسمع كلاماً ناقماً على الفئة الحاكمة، يشمل ذلك زعماء الأحزاب الكبرى والوزراء والنواب، كما يشمل الفريقين المختلفين. تسمعه في الشارع وفي المحال، في المدارس وفي أماكن العمل، في الأسواق وفي المنازل.
فالشعور هو أن حلقة التعصب تتكسر تدريجاً لمصلحة التفكير في أن الحياة طبيعية مع إبن البلد «الآخر»، إذا ابتعد التحريض السياسي. فقد جربوا أصعب الظروف، الحرب الأهلية، الحروب الإسرائيلية، الاغتيالات السياسية التي بلغت قمتها مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تلاه من اغتيالات.. وأخيراً، جربوا كلاً من الفريقين في الحكم، واكتشفوا أنهم يتشابهون في مواضيع الخلاف، وطرق البحث بها، من دون إيجاد الحلول لها.
بعد مرور اثنين وعشرين عاماً على انتهاء الحرب، يردد الذين جرى الحديث معهم، أن الوضع تغير نحو الأسوأ. الخدمة الأولى التي فشل السياسيون في حلها، ألا وهي الكهرباء، ترد على كل لسان، كأنها عنوان لفقدان الأمل: «نحن نقطة على الخريطة لماذا نعجز عن حل مشكلة صغرى كهذه؟»، تسأل أحلام ماضي من عين الرمانة، فيما يقول رجل من آل لطوف في الأشرفية: «لقد خدعونا، قاتلنا من أجل لاشيء».
ويوضح أحمد (اسم مستعار) من «حركة أمل» أنه شارك في الحرب الأهلية، لكنه ترك الحركة بعد الحرب عندما اكتشف أن الهدف الوحيد لكل من جاء إلى الحكم هو تعبئة جيوبه بالنقود. لقد تحوّل زعماء الميليشيات إلى أصحاب نفوذ ووجاهة، يرتدي كل منهم بذلة بخمسة آلاف دولار. يضيف أحمد، انتبهوا إلى مصالحهم ومصالح أولادهم فحسب، وراحت على الباقين. يتابع: «كلهم مثل بعضهم لا فارق بينهم، هم الذين قادوا الحرب، وهم الذين قرروا بناء الدولة بعدها، لذلك لا يمكن الثقة بهم».
يقول رجل مسن من جسر الباشا ويعمل على طريق صيدا القديمة إنه لم يعد يطيق أحداً: رمم محله الذي أصيب في الحرب من جيبه الخاص، وعاد للعمل، ومشي الحال كم سنة. لكن حالياً تمر أيام لا يستفتح فيها. لقد حصلت تحولات كبرى، يضيف الرجل، تراجعت القدرة الشرائية كثيراً، وأصبح الناس يبحثون عن تأمين الأولويات، مثل الطعام والشراب والطبابة والمدرسة. أما السلطة فهي بالنسبة إليه غير موجودة، ولا يهتم من يأتي إلى الحكم.
عاشت أحلام وتربت في عين الرمانة، تتحسر على أيام الطيبة والتواصل، ومثلها البحبوحة المعيشية. تقول إن «كل شخص يسير حالياً خلف مصلحته الخاصة، لا مقومات معيشية متوافرة، ولا نقود، بينما تطير الرواتب في الهواء». الطبقة الحاكمة تزداد غنى ونحن نزداد فقراً، جميعهم بالنسبة إليها يصبون في الخانة نفسها من دون استثناء.
وفي الأشرفية يوضح الرجل من آل أبولطوف أن أولاده يشكرونه اليوم لأنه أحرق لهم البطاقات الحزبية، ومنعهم من المشاركة في الحرب الأهلية، وقد أصبح أحد أبنائه مديراً لفرع مؤسسة لبنانية في الإمارات، بينما رفاقه الذين قاتلوا باتوا عاطلين من العمل. ويعتبر أن الملتزمين بالحزب هم الذين ينتمون إليه أباً عن جد. ويعتبر أن «جميع السياسيين سارقون». ويشير بيده إلى محلة الزيتونة فيقول إنها «أصبحت لمرجع حكومي حالي، والسوليدير لآل الحريري، وعين المريسة لأحد المقربين من مرجع نيابي». ويشير بيده الأخرى إلى «البارك ميترز» ويقول إنها «لأحد المراجع النيابية، وبطاقات الهواتف العمومية توقفت لأن أحد المسؤولين الكبار التزمها، ويريد رفع سعر البطاقة من عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف ليرة، بينما ادّخر زعيم حزبي أموالاً خلال الحرب ويملك المليارات.. حتى آثار وسط البلد سرقوها».
في المقابل، يوضح رجل من آل أبوعاصي، يعمل في ساحة ساسين، أنه نادم على مشاركته في الحرب لأنها «كانت من دون هدف». ويقول: «ليتني كنت شحاذاً ولم أدخل الأحزاب. وقد منع أولاده الأربعة من الانتماء الحزبي، و«هاجروا إلى لوس أنجلوس في الولايات المتحدة».
تتوقف سامية طقوش، من منطقة الملا في بيروت، عند فقدان الأمان المباشر إذ «أصبح كل شيء مستباحاً: نقفل أبواب منازلنا بالأقفال ولا نعرف متى يدخلها السارق، وتقول إن «العلاقة مع السياسيين حالياً لم تكن كذلك في السابق، كانوا اكثر احتراماً للناس، أما اليوم فإنهم يقفون معهم في تصريحاتهم على شاشات التلفزيون فحسب. يزوروننا في الانتخابات وبعدها لايعرفون أحداً».
أحزاب الحرب
تشكل المواقف التي يعلنها الأهل عبراً لأولادهم الذين يبحثون عن دور حزبي حالياً، في أحيائهم وفي الجامعات. وهو دور يحتاج إلى بحث وتقويم خاصين، إذ تبرز المفارقة الأولى فيه بأن قيادات الأحزاب حالياً هي نفسها التي قادت الحرب، وأنتجت مجتمعاً لا انتظام فيه.
تقول أحلام إن ابنها يدرس الهندسة المعمارية في كلية الفنون في «الجامعة اللبنانيّة» الفرع الثاني، وكل مرة تأتي إليه مجموعة من انتماء مختلف، وجميعهم يسألونه إذا كان يريد الانضمام إلى حزبهم أو تيارهم، ولكنه يرفض كل مرة، بقرار حازم من والديه، فابتعدوا عنه جميعاً، وهو يقول لها: «أصدقائي من الفتيات فحسب»، فتجيبه: «طوّل بالك، ستكتشف فيما بعد أنك على حق.
ولا يستثني ذلك الجامعات التي منع فيها النشاط الحزبي مثل الجامعة اليسوعية، حيث الاختلاط الطائفي والمناطقي بين الطلاب». ويقول الطالب أنطوني رزق إن «كل مجموعة تجد طريقها إلى بعضها». ويعتبر أن «قانون انتخابات المجالس الطلابية شجع على التكتل الحزبي لأنه يعتمد النسبية مع الدائرة الصغرى، ويجب أن يكون النسبية مع الدائرة الكبرى».
ومثلما يحصل في مناطق الفقراء ومتوسطي الحال، يقيم عدد كبير من الشبان تقريباً على الطرقات، تحت عنوان الحراسة، كما في الشياح والطريق الجديدة، فإنهم أيضاً في عين الرمانة التي عاشت الحرب من يومها الأول. تفيد إحدى السيدات أنه «إذا كان الشاب غير مهاجر أو من عائلة غنية، لا يستطيع البقاء على الحياد لأنه يعيش وحيداً، وعلى الرغم من نسبة التعليم العالية بين المسيحيين فإن العديد من الشبان تخلوا عن التعليم لأنهم يعتقدون أنه لا يؤمن لهم سبل عيشهم، وتحولوا إلى المراكز الحزبية».
مع ذلك، يؤكد أكثر من شخص تم لقاؤه في عين الرمانة أن «جميع الشبان، الحزبيون منهم وغير الحزبيين، لن يقفوا مجدداً خلف المتاريس مهما كانت الخلافات قوية، ويقولون: «الله يبعد الحرب عنا».

يبتعدون تدريجياً

إذا كانت غالبية الناس من الناقمين، من هم الذين يشاركون في الانتخابات؟ لم يقل أحد ممن التقيناهم إن الناس ينتخبون عن قناعة سياسية. يعتبر أحمد أن الناس يلحقون بالزعيم لأنهم يخافون من الجوع، فيركضون خلف المنافع الخاصة. ويرون في زعيمهم أنه المنزل، حتى لو كان مخطئا.. أو مجرماً، ويعتبر أن «الشعب اللبناني لا يستطيع قلي بيضة».
أما أحلام فترى أن «من ينتخب يباع ويشترى، ويساق خلف التعصب». وتقول: «يلزمنا مدارس تعيد تأهيلنا لكي نتعلم كيف نتخذ قراراتنا عن معرفة وقناعة». وتسأل «هل الذين ماتوا في الحرب أصلاً يعرفهم زعماؤهم؟».
يتحدث أبولطوف عن أحد معارفه الذي شارك في مسيرات ساحة الشهداء بعد اغتيال الرئيس الحريري، وهو لا يملك ثمن ربطة خبز، وكان يسأله: ما الذي تريده من النزول إلى ساحة الشهداء؟
ويقول إن غالبية الذين كانوا ينزلون إلى التظاهرات من معارفه، ويحملون الشموع، يعلنون اليوم أنهم كانوا مخطئين، لأن أحداً من الزعماء لم يلتفت إليهم فيما بعد.
وترى سامية أنه حتى المتعصبين اصبحوا يعرفون أن الحكام يضحكون عليهم. تضيف: «نعم لقد تغيّرت مواقف جيراني ومعارفي ولم يعودوا يرغبون بالمشاركة في الانتخابات. بالعربي الفصيح، لم نعد نثق بأحد، حتى الذين كنا نناصرهم».

السابق
40 مليون$ بيد زوجة الوزير بلا رقابة
التالي
أحمد الحريري: لا تنتظروا خيرا من حكومة ميقاتي لأن من ينأى بنفسه لا يمثلنا