حج فلسطين: الأرض عِرض والقدس قِبْلة والمقاومة حياة

فلسطين ليست قضية العرب المركزية. لعلها ليست مركزية حتى في نظر بعض القيادات الفلسطينية. هي باتت في حاضرنا مجرد قضية اخرى في سُبحة قضايا يجمعها خيط رفيع من تاريخ وجغرافيا تتسلى بحبات نكبتها وكوارثها اصابع لاعبين كسالى يلعبون ويتلاعبون بها بلا ملل.

الى متى يتفرج العرب المحبطون؟

في كل عقد، اكثر او اقل، يثور الفلسطينيون فيصنعون حراكاً او انتفاضة تعيش اشهراً او سنوات معدودات قبل ان تفترسها وحوش جلاوزة الحاكمين او تستهلكها آلات القتل الممنهج لمغتصبي الارض والعِرض. وهـل العِرض إلاّ الارض نفسها بما هي ينبوع الحياة والحرية والكرامة؟

نضالات ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي لم تكسر سيف تقسيم الارض – العِرض ولا منعت اغتصابها او تهجير حارثيها وبُناتها وساكنيها وتشريدهم تحت كل كوكب. كذلك لم تُجدِ حروب لاحقة في تحرير شبرٍ واحد منها.

بعد هزيمة 1967، ثارت ثلة من الفلسطينيين الاحياء على اللاعبين والمتلاعبين وعلى الصهاينة المغتصبين بأن انشأت منظومة مقاتلين تتصدى للعدو في عقر “داره”، وتباغته بعملياتٍ تنطلقُ من الأقطار المحيطة حيث مخيمات اللاجئين بقصد توريط الحكومات الساكنة والمسكونة بالخوف، او المتواطئة ضمناً مع العدو. كل ذلك كي يقوم العدو بمهاجمة الدول الساكنة والمتواطئة، فتضطر الى التحرك، مرغمةً، دفاعاً عن النفس ما يؤدي الى الاشتباك مع العدو وتأجيج الصراع تالياً على مستوى الأمة كلها.

لكن العدو رفض استدراجه الى مقاتلة حكومات تشاطره نظرته العدائية الى المقاومين. والحكومات المتواطئة رفضت ايضاً ان تتورط، فتصـدّت بالعنف للمقاومين الذين تجرأوا، بأسلحة فردية، على تخطي الحدود لمقاتلة العدو. هكذا وقع مقاتلو المقاومة في الفخ نتيجةَ تخطيط ساذج لم يضع واضعوه في الحسبان ان السلطة عند الحاكمين اغلى من الحرية في قلوب المحكومين.

غير ان “سياسة التوريط” انتجت “مكسبا” لم ينتظره اصحابها. فقد ارتأى قادة العرب ان الوسيلة الفضلى لتنفيس غضب الفلسطينيين وستر عورة الحكومات الساكنة والمسكونة بالخوف إنما تكون بإنشاء منظمةٍ للتحرير تتولى شؤون الفلسطينيين وتتحدث باسمهم.

مع ذلك، لم تَسلَم المنظمة الوليدة من تواطؤ الحاكمين لأنها اسلست القياد لقيادات شابة، التزمت قضية المقاومة والتحرير وحاولت، بالكثير من الإرادات الطيبة والقليل من التفكير والتدبير والحسابات الدقيقة، معاودة الاصطدام بالعدو عبر الحدود، فكان ان استفرد بها العام 1982 بغزوه لبنان ودفعه قيادات المنظمة وفصائلها الى دنيا الشتات.

الفشل والإحباط وتواطؤ الحكام دفع قيادة المنظمة الى سلوك نهج الحاكمين في مهادنة الاعداء المغتصبين، فوقّعت اتفاقات اوسلو في العام 1993 وارتضت إقامة سلطة حكمٍ ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانهمكت في مفاوضة العدو على مدى عشرين سنة، آملاً تحقيق وعدٍ عرقوبي بإقامة دولة فلسطينية، لكن هيهات، فقد استغل العدو تهالك قادة المنظمة على المفاوضة وتسكين المقاومة ليباشر حملة استيطانية واسعة افترست نحو 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية التي لا تشكّل سوى 22 في المئة من ارض فلسطين التاريخية. ذلك ترك قيادة منظمة التحرير صفر اليدين ما دفعها الى وقف المفاوضات.

حاول قادة المنظمة احتواء فشلهم المزمن في المهادنة والمفاوضة بعقد مصالحة بين فصائلها المتنافسة والمتناحرة. غير ان المصالحة بقيت طوال سنوات حبراً على ورق ومادة للجدال والسجال. حتى محاولة الاستحصال من مجلس الامن الدولي على اعترافٍ بدولة فلسطينية باءت بالفشل، نتيجةَ موقف اميركا المثابر على استخدام “الفيتو” القاتل.

وسط هذا الصمت المدّوي الذي يلف المشهد الفلسطيني، كان لا بد للقوى الحية في الامة عامةً والشعب الفلسطيني في الوطن والشتات خاصةً، من ان تبتدع مقاربة جديدة، شعبية وسياسية واعلامية، لإحياء قضية فلسطين واستعادة مركزيتها في حياة العرب والمسلمين. في هذا الاطار جرى الاتفاق على توحيد “يوم الارض” و”ذكرى النكبة ” في مناسبة واحدة، سنوية وعالمية، تزحف خلالها الجماهير والوفود والفاعليات من شتى انحاء عالم العرب والمسلمين والعالم الاوسع الى فلسطين، او الى اقرب نقطة منها، للتعبير بشتى الأساليب، عن إرادة التحرير، تحرير الارض من النهر الى البحر، وتحرير الإنسان، كل إنسان من الصهيونية، نظاماً وكياناً ومصالح، والعقل العربي من الارتهان للأجنبي، ثقافةً وسياسةً ووجوداً ونفوذاً.

اجل، اذا كان المخاض الذي يعصف بعالم العرب قد بشّر بربيع زاهرٍ لحظةَ انعتاق الشعوب من القمقم وتصميمها على عدم العودة اليه ابداً، فإن العبرة التي استخلصتها القوى الحية في الامة من هذا الحدث الجلل هو تدشين توحيد “يوم الارض” و”ذكرى النكبة” في مناسبة تاريخية واحدة بتحويلها الى موسم حج جديد. بذلك يكون للعرب والمسلمين حجان: حج بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وحج القدس الشريف في فلسطين المحتلة إن استطاعوا إليها سبيلاً او الى اقرب نقطة من ترابها المقدس.

باعتماد “حج فلسطين” وترسيخه وتعميمه في أربع رياح الارض، تنطلق وتتكامل مسيرة إحياء قضية فلسطين على اسس تاريخيـة رامزة: الارض عِرض، والقدس قِبلة، والمقاومة حياة.

بهذه المبادئ والقيم الروحية والقومية والإنسانية والسياسية العالية، تصبح قضية فلسطين في عهدة الشعوب: شعوب العروبة، شعوب الإسلام، وشعوب العالم. واذا كان احدٌ لا ينكر أن الكيان الصهيوني هو صناعة الغرب، الغرب بمعناه الواسع، غرب الامبريالية المعولمة، فإن إحياء قضية فلسطين وتحريرها ارضاً وانساناً يستوجب عولمتها لتصبح قضيةَ شعوبٍ تحررت وتتضامن مع شعوبٍ اسيرة في معارك انتزاع حريتها.

في هذا الفضاء الشعبي العربي والعالمي الواسع، تمّ في يوم جمعة فضيل 30/3/2012 إحياء “يوم الارض” في مضمونه التاريخي الجديد. في القدس اقيمت صلاة جامعة في المسجد الاقصى، اعقبتها مسيرة حاشـدة. في مخيم قلنديا ومدينتي الخليل وبيت لحم انطلقت مسيرات حاشدة واصطدمت بأفواج قوات الشرطة «الإسرائيلية» ومصفحاتها، فسقط اكثر من 100 جريح. في قطاع غزة، انطلقت مسيرات حاشدة من بيت لاهيا الى معبر بيت حانون، حيث اشتبكت مع القوات «الاسرائيلية»، فسقط شهيد وعشرات الجرحى. في فلسطين المحتلة العام 1948 سارت تظاهرات في بلدات عدة، اهمها تظاهرة حاشدة اتجهت الى “دير حنا” وتخللتها صدامات وسقوط جرحى، فارتفع عدد الجرحى في مجمل الأراضي الفلسطينية الى 400. في لبنان احتشد الالوف في “قلعة الشقيف” القريبة من حدود فلسطين المحتلة وأحيوا احتفالاً حاراً. في الأردن احتشد الألوف، بينهم متضامنون اجانب من 80 دولة، في منطقة “الكفرين” الحدودية لإحياء المناسبة. في سورية احتشد ألوف الفلسطينيين والسوريين للاحتفال في قلب دمشق. وفي مصر وتونس والمغرب وايران وماليزيا جرت ايضاً احتفالات حاشدة.

مشاركة شعوب العالم في احتفالات “يوم الارض” كانت لافتة: اكثر من 2500 متضامن اجنبي حضروا عبر “مطار بن غوريون” «الاسرائيلي»؛ اكثر من 200 متضامن من 80 دولة حضروا الى الأردن؛ اكثر من 250 متضامناً، بينهم اربعة حاخامين معادون للصهيونية، ينتمون الى 63 دولة حضروا الى لبنان.

فلسطين تستوطن قلوب الشعوب. وفي القلوب ستبقى حيّة.

السابق
مهمة أنان.. حقيقة ومصير!
التالي
النأي بالنفس=قوة لبنان في ضعفه؟