في رثاء جيل بكامله

من أين أبدأ ؟؟
وأعرفُ جيداً من أين سأبدأ…
من حيث ودّعنا الحاج محمود…
فعلى بعد أمتارٍ من هنا، تحتِ القليلِ من الترابِ والكثيرِ من الذكريات يرقدُ الحاج محمود، الحاجُ الذي أوصى أن يكونَ مثواهُ الأخيرِ تماماً مثلَ أيامِهِ كلِهَا، متواضعاً، يجمعُ الحبَّ والخيرَ والوفاءَ والصدقَ والايمان …شاهداً على رحيلِ جيلٍ بأكملِهِ.
في جرجوع كما في بقيةِ قرى الجنوب، وربما في لبنانَ كلِهِ، ثمةَ جيلٌ يغتالُه الوقت.
والعمرُ لا يتعبُ من توجيهِ ضرباتِهِ القاسية.
واكبَ الاحداثَ كلَهَا، عدوانًا تلو عدوانٍ وحربًا تلو أخرى: قتلا، قصفا، تدميرا وتهجيرا… لم تستطِع اسرائيلُ أن تنالَ من عنادِهِ وعزيمتِهِ…. بقيَ واقفاً.
صمدَ مع كلِ من صمدوا… لم يتركِ البلدة لا في اجتياحِ 1982 ولا في عدوانِ تموز 2006 لا قبلَهُما ولا بعدهُمَا.
فزادنا قناعةً أنَ…. "على هذه الأرض من يستحقونَ الحياة"
في العام 2006 لم تكن أعوامُه الخمسةُ والسبعون حينَها تعيقُ حماسَتَهُ وحيويتَهُ وجهدَهُ، فربط مصيرَهُ بمصيرِ جرجوع …
كما لو أني بِهِ ينادي شجرَ الزيتونِ وزهرَ القندول … نعيشُ معاً أو نموتُ معاً…
بقي بيتُ الحاج محمود مفتوحاً… في زمنٍ ندرت فيهِ البيوتُ المفتوحة…
واظبَ الفقيدُ على الاهتمامِ بضيوفِ القريةِ كما لو ان جرجوعَ كلَها بيتُهُ.
نفتقدُكَ اليومَ يا عمّي ليس فقط لأننا أحببناكَ…وقد أحببناكَ كثيراً…نفتقدُكَ أيضاً لأنكَ رجلٌ لا يتكررُ، من جيلٍ لا يتكررُ، يحملُ قيماً نرجو أن ترسِخَهَا وصيتُكَ اذ طلبتَ أن يقتصرَ قبرُك على الترابِ وعلى شاهدٍ بسيطٍ يعرّفُ بساكنِ التراب.
كنتَ تريد القولَ حينها، ونفهمُ اليومَ ماذا عنيتَ، ان الأمواتَ لا يأخذونَ معهُم سوى التراب، ولا يتركونَ على هذه الأرضِ الا اسماءَهُم: هنا يرقد الحاج محمود الشامي.
رسالتُهُ هذه بعثَها الى كثيرين…كثيرونَ نسَوا أن جبلَ عاملٍ أرضُ الكرمِ والجودِ والعزةِ… وليسَ أرضَ جمعِ المالِ وبناءِ القصور.
حتى في موتِهِ كان كريماً… ليترُكَ لنا مأثرةً تؤانسُنُا.
كان بناءً، شاركَ في تشييدِ معظمِ منازلِنَا وصروحِنَا…ورضِيَ بمنزلٍ متواضعٍ… منزلٌ كان قصراً من أخلاق. كذا اليومَ مرقدُهُ الأخير …
كان مؤمناً بالله بحقٍّ، فزارَ بيتَ الله في شبابِهِ الباكر، وما أكثرَ المتدينينَ وما أقلَ الدينِ في أيامِنَا…كان مؤمنًا بحق…
رحلت يا عمي كما يرحلُ القديسونَ والأولياء…
هكذا يغادرُ الصالحون… لما دنت ساعةُ الفراقِ تجمعَ من حولِكَ كلُ محبيكَ… كلُهُم جاؤوا… من بعيدٍ أتَوا… كرحيلِ القديسينَ رحلتَ، فمنك البركةُ وعبقُ البخور.
هنا يرقدُ أحدُ وجهاءِ جبلِ عامل…
هنا يرقدُ صاحبُ البيتِ المفتوحِ في زمنِ القصورِ المقفلة…
هنا يرقدُ بنّاءٌ… أجملُ ما بناهُ هو الحبُّ…
هنا يرقدُ رجلٌ كريمٌ… في زمنٍ عزَّ الكرمُ…
هنا يرقدُ مقاومٌ لم يطلب شيئاً لنفسِهِ…
هنا يرقدُ جيلٌ بأكملِهِ…
هنا…هنا يرقدُ الحاج محمود الشامي.

السابق
خليفة:تعديل قوانين سلامة الغذاء
التالي
معلومات فرنسية تشير الى تهديدات جديدة لليونيفيل