تاريخ لبنان الحديث

لقد شكّلت حرب الـ 15 سنة في لبنان من 1975 وحتّى 1990 محطّة هي بكلّ تأكيد الأهمّ والأخطر في تاريخ لبنان المعاصر، فلم تكن كما يعتقد البعض أنّها فقط حروب "الآخرين" على أرض لبنان، بل كانت أيضاً حروب التناقضات والتباعدات والتراكمات السلبيّة المتنامية بين اللبنانيّين أنفسهم في هذا الوطن القائم من أساسه على توازنات طائفية ومذهبيّة دقيقة وهشّة في آن لا تشبه توازنات أي وطن آخر في هذا العالم، …. فتقاطعت مشاريع "الآخرين" مع "الثغرات" اللبنانيّة في مواقع عديدة لتقع الفتنة الكبرى ويدخل معها لبنان نفق الحرب المدمّرة التي أخذت أشكال وألوان متعدّدة عبر مراحلها المتتابعة، فصبغت جوانب عديدة منها نزاعات وطنية وقومية وطائفية ومذهبيّة كادت أن تؤدّي إلى تقويض الوطن وتقسيمه إلى دويلات غير قابلة للعيش أو حتّى التعايش.
تظلّلت تلك المرحلة في بداياتها بنفوذ ملحوظ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة على المشهد السياسي والأمني في لبنان، ليعقبه وصاية سوريّة شاملة دامت لما يقارب الـ 3 عقود وكانت واحدة من أسوأ الوصايات السياسيّة والأمنية في تاريخ العالم المعاصر.

في التأريخ << الحديث >> للبلدان المعاصرة، يكون توثيق الأحداث وتدوين وقائعها في كتب التاريخ في العادة جزءاً لا يتجزّأ من هوية الشعوب ومن ثقافتها أيضاً، فمنه تؤخذ العبر والدروس للحاضر كما للمستقبل، وهذا أمر معهود في كلّ مجتمعات ودول العالم بما في ذلك لبنان حيث يُلقى الضوء على الوقائع والأحداث كما حصلت على حقيقتها ويُصار إلى تقييمها بإيجابياتها وسلبيّاتها لتكون بمثابة منطلق إضافي نحو مزيد من اللحمة الداخليّة والوحدة الوطنيّة، وبالتالي دعامة إضافية من دعائم التربية الوطنية.

ولكن حقبة ما يُسمّى بالحرب الأهلية في لبنان، كانت حقبة سوداء بكلّ ما للكلمة من معنى، حيث خيّم على الوطن لسنوات طويلة مشهد الحرب والموت والدمار والفقر والهجرة، … تحت عناوين مختلفة لأفرقاء الوطن الواحد. فلم يعترف أي طرف بخطأه حتّى يومنا هذا حتّى وإن اعترف البعض بخطأ اللجوء إلى السلاح أو خطأ الإستعانة بالخارج، لأنّ كلّ من الأطراف المتصارعة ادّعى أنه يخوض حرب الكرامة دفاعاً عن لبنان الواحد السيّد المستقلّ بهويّته القومية العربيّة أو اللبنانيّة ولكن بإطار مختلف …. ولكنّهم في النهاية أجمعوا آنذاك، وبعد 15 سنة من إندلاعها على أن الحرب القائمة هي نهاية الوطن، فكان مؤتمر الطائف "التوافقي" الذي وضح حدّاً للحرب القذرة.

بناءً على هذا الواقع الذي لا يختلف عليه إثنان، سيكون من غير المقبول كتابة تاريخ موحّد للوطن بكلّ أطيافه إنطلاقاً من وجهة نظر طرف من أطراف الصراع حتّى ولو على نحو جزئي ما لم يكن هناك إجماع حولها …. فالحرب المدمّرة وضعت أوزارها فقط في اللحظة التي قرّر فيها الفرقاء التقارب فيما بينهم والتوافق، … إذاً لا بد أن يحكم أيضاً التوافق بينهم "تأريخ" تلك الحقبة عندما ستعتمد كمحطّة ثقافية وتربوية من تاريخ لبنان الحديث.

ليس صحيحاً ما يُشاع عن أنّه واجب أخلاقي وإنساني إطلاع الأجيال اللبنانية الناشئة والقادمة على حقيقة ما جرى في الحرب الأهلية، ففي مجتمعات وأوطان أخرى قد يكون هذا واجباً وضرورة، ولكن تركيبة الوطن اللبناني التي لا مثيل لها، ومجريات الحرب ومفاصلها من البداية وحتّى النهاية … تُبقي قصّة الحرب "الأهليّة" مسألة جدلية معقّدة إلى حدود بعيدة جداً ….. ومهما كان المؤرّخون حياديّين ومستقلّين، إلاّ أنه لن يكون مفيداً أبداً إطلاع الأجيال الجديدة على تفاصيلها خاصّة وأن غالبيّة "معاصري" هذه الحرب لا زالوا أحياء يُرزقون … ولن يقبلوا أن يُسرد تاريخ الحرب على نحو يعارض وجهة نظرهم ومبادئهم التي حاربوا وقاتلوا من أجلها، … وهذا يحمل في طياته أخطاراً كبيرة تتمثّل بإعادة إحياء النعرات "النائمة" وتوريثها "منهجيّاً" لجيل الأبناء والأجيال القادمة.

بهذا نجد أنّ القائمين على كتابة تاريخ لبنان الحديث، هم أمام خيار واحد لا ثاني له:
يجب أن يُكتب تاريخ الحرب "الأليمة" على نحو لا يطال ولا يوثّق إلاّ ما يُجمع عليه اللبنانيّيون نصّاً ومضموناً، وإذا اقتضى الأمر إعتماد الإختصار إلى أبعد الحدود.

وحتماً هناك العشرات من السيناريوهات الملائمة لكتابة نصّ "تأريخي" يتوافق عليه جميع اللبنانيّيون دون إحياء العصبيات وإذكاء النعرات، … وأي مسار غير هذا سيكون بمثابة نقل أكيد لعدوى "وباء الحرب الأهلية والإنقسام وتكريس الفرقة" إلى الأجيال القادمة.

ونحن طبعاً من دعاة "نسخ حقبة الحرب الأهلية من تاريخ لبنان" واختصارها بجملة وصفية قصيرة، لما فيها من تفاصيل مؤذية ومؤلمة مع كثير من الإتّهامات والإدانات في جميع الإتجاهات.

السابق
روسيا وافقت على نقل صلاحيات الأسد إلى نائبه
التالي
توقيف عصابة مخدرات في حاروف- النبطية