لبنان والتسويات

قد يقول قائل إن البلاد لم تعد تحتمل تسويات أو "ترقيعاً" إذا جاز التعبير، وأصحاب هذا الرأي هم في المبدأ على حق. ولكن من قال إن الأمور تسير دائماً في خط مستقيم، ومن يضمن عدم الاصطدام بالحائط والوقوع في المحظور إن لم يكن هنالك حوار وتسويات؟

كلنا يعلم أن التعدّدية التي ينعم بها لبنان سيف ذو حدّين، فالتنوّع في بلدنا نعمة ساهمت في إطلاق الحريّات لكل مكوّنات المجتمع اللبناني. ولكن هذا التنوع أطلق في الوقت عينه العنان للحمايات الطائفية، فالفساد ما كان ليتفشى على النحو القائم في المؤسسات ومختلف نواحي الدولة، لولا الغطاء الطائفي والمذهبي للفاسدين.

فللتسويات تاريخ في لبنان لا يمكن إلاّ ملاحظة أنها كانت تأتي دائماً بعد حروب ومعارك. وما اتفاق الطائف إلاّ إحدى أهم التسويات التي انعقدت بين اللبنانيين وتحوّلت دستوراً لهم. وفي التاريخ القريب جداً، جاءت تسوية الدوحة أو اتفاق الدوحة بعد وصول اللبنانيين إلى حافة الحرب الأهلية، إذا لم نقل إنهم قد ولجوا أبوابها منذ زلزال التفجير الذي أودى بالرئيس رفيق الحريري، قبل أن يردَّ الاتفاق في الدوحة كلاً منهم إلى معقله.

إذن التسويات قدر اللبنانيين بعد كل أزمة أو حتى مأزق. وعادة ما تكون التسوية على قياس الأزمة أو تقارب المأزق والمشكل إلى حدٍّ ما.

ولكن ألا تحمل هذه التسويات سلبيات إلى جانب إيجابياتها التي تعطل عوامل التفجير بين مكوّنات المجتمع اللبناني، كما تترك آثارها السلبية على التشريع والدستور والمؤسسات؟ من المعلوم أن آخر تجربة لنا مع التسويات كانت في الدوحة في أيار 2008. فقد حملت الاستقرار الأمني للبنان، ولكنها سلبت من اللبنانيين حريتهم في اختيار ممثليهم في مجلس النواب عبر الاتفاق الشهير على اعتماد قانون للانتخاب بالٍ وظالم ونتائجه السلبية واضحة اليوم للعيان عبر المراوحة السياسية العالق لبنان بين براثنها.

وأمامنا أيضاً نموذج آخر من التسويات بدا يوم تظاهرة الشيخ أحمد الأسير المناهضة للنظام السوري وتظاهرة حزب البعث المؤيدة له. فمع نزول طرفين متنازعين على الموقف من الأزمة السورية إلى الشارع، ترقبّ الناس أن تقوم الدنيا ولا تقعد. ولكن كان واضحاً أن مفهوم التسوية ساد عشية الدعوات إلى الاعتصام في ساحة الشهداء… ولا بدّ هنا من ملاحظة أن مختلف الأطراف المختلفة على الموقف من سورية، لم تشارك في هاتين التظاهرتَيْن، مثل "تيار المستقبل" وغالبية مكوّنات 14 آذار من جهة، و"حزب الله" وحركة "أمل" وغالبية مكوّنات قوى 8 آذار من جهة أخرى، علماً أن ثمة تبايناً حادّاً بين 8 و14 في الموقف من سورية وأزمتها. ألا يدلّ ذلك على نوع من التسوية الضمنية أو حتى "تحت الطاولة"، كي لا يصل لبنان إلى نقطة التصادم وكي لا يقع اللبنانيون في المحظور التناحري مجدداً؟

أما الملاحظة الأهم فتكمن في غياب المشاركة الشعبية التي جاءت ضعيفة جداً وباهتة لدى الطرفين. فالناس هنا مارست مفهوم التسوية بعدم المشاركة الواسعة، على رغم انقسام اللبنانيين حيال الأزمة في سورية.

نحن نؤمن أن الحلول للأزمات العربية القائمة تكمن في التسوية من أجل تحقيق طموحات الشعوب العربية في الديمقراطية. وإذ نأسف شديد الأسف على الدماء البريئة التي تراق على أرض سورية تحديداً، نرى بوضوح خطورة الاندفاع نحو الصراعات في ظل خطر نشوب حرب أهلية، لا يعلم إلاّ الله المدى الذي قد تصل إليه فظائعها، ولا إلى أين مآلاتها وسط انعكاسات لعبة الأمم على سيادة سورية وبلداننا العربية واستقلالها على وجه العموم.

إن المطلوب في لبنان هو تضافر جهود قوى الاعتدال والمعتدلين من أجل الحفاظ على أمن البلد واستقراره، فلقد أثبت اللبنانيون تمسكهم بسلمهم الأهلي ووحدتهم الوطنية فوق كل خلاف أو اختلاف

السابق
تجمع لبنان المدني: نادٍ سياسي بثقل شيعي
التالي
زلزال اسرائيلي مصطنع.. يدمر المسجد الأقصى !!