العصيان المدني في مصر

لسبب ما، أو لأسباب ما، تلونت الدعوة إلى العصيان المدني في مصر، المعدل لاحقاً إلى الإضراب العام بألوان عدة تراوحت بين الدين تارة سواء كان الإسلامي أم المسيحي، وبين الإسلاميين تارة أخرى سواء كانوا الإخوان المسلمين وذراعهم السياسية «حزب الحرية والعدالة» أم التيارات السلفية، وتارة ثالثة بلون الراضين بالخطوات السياسية التي تم اتخاذها في مصر، ورابعة بلون التأييد للمجلس العسكري وطريقة إدارته شؤونَ البلاد في هذه المرحلة الحاسمة القريبة إلى الحالكة في التاريخ المصري الحديث.

لكن أحداً لم يلتفت إلى لون آخر ألقى بظلاله على الدعوة إلى العصيان أو الإضراب العام. هذا اللون هو لون السن، أو بمعنى آخر الفئة العمرية الأكثر ترشحاً لقبول الإضراب، وبالطبع الدعوة إليه.

الأسبوع الماضي تلونت مصر بلون العصيان. ولأن اليوم الأول 11 شباط (فبراير) تزامن واليوم الأخير في إجازة منتصف العام الدراسي، فقد شهدت الشوارع وخصوصاً في القاهرة مسيرات لطلاب وطالبات المرحلة الثانوية، وتبعتها مسيرات أقرانهم من طلاب الجامعات في ما تلاه من أيام.

وفي حي مصر الجديدة في شرق القاهرة بدت الصورة أكثر وضوحاً. المسيرة تجمعت في الوقت المحدد لها في الثانية بعد ظهر يوم 11 الجاري. لم يكن مهماً الإنصات إلى الشعارات التي يهتفون بها من «يسقط يسقط حكم العسكر» أو «يا شهيد نام وارتاح إحنا نكمل المشوار»، ولم يكن من المجدي محاولة حصر أعدادهم، كما لم يكن ضرورياً محاولة ثنيهم عن نيتهم الطواف في شوارع مصر الجديدة بدعوى تعطيل المرور لأنه معطل أصلاً، أو إيقاف عجلة الإنتاج التي لا تبدو في حال أفضل كثيراً من الحال المروري. كان المهم هو النظر في أعينهم ورؤية هذا المقدار من الحماسة والإمعان في وجوههم والتأكد من فئاتهم العمرية التي لا تتجاوز الـ18 عاماً على أقصى تقدير. حتى وإذا كان هناك عشرة أو عشرون اندسوا بينهم لتأليب الشعب على الجيش، أو لإشاعة الفوضى وعدم الاستقرار، لكن المؤكد أن الغالبية المطلقة منهم وجدت في الدعوة إلى الإضراب وتلبيتها فوراً غاية المنى والأمل.

ربما نزل البعض في هذه المسيرات بدافع حب الاستطلاع أو الإثارة التي تحملها، لا سيما أنها كانت على الأغلب المسيرة الأولى في حياة الكثيرين ممن ساروا فيها، وربما شارك البعض كنوع من العناد الطبيعي لموقف الآباء والأمهات الرافض كل الرفض المشاركة في مثل هذه الأفعال التي قد تنقلب إلى عنف ودماء كما حدث غير مرة خلال الأشهر القليلة الماضية.
 المؤكد أن النسبة الأكبر منهم نزلت لأنها تنتمي إلى فئة عمرية تؤمن بضرورة التغيير الجذري السريع وإمكانه، ولا ترى مساحة كبيرة من الألوان الرمادية، فهي ترى شعراً ناصع البياض يعتلي رؤوس أركان النظام السابق الذين يقبع بعضهم في المستشفيات والسجون ويلقون معاملة الأمراء والبعض الآخر يرتع خارجها ويمضي قدماً في حياته كأن شيئاً لم يكن، وترى شعراً حالك السواد وقد توارى مع صاحبه في الثرى ما دفعهم لرفع شعار «شعر أبيض على الكراسي وشعر أسود في القبور».

عمر سند (16 عاماً) أحد المشاركين في المسيرة يقول: «شعار: يسقط يسقط حكم العسكر، هو الأكثر شعبية هذه الأيام، لكنه ليس هدف مسيرتنا. كما أن الهدف ليس عصياناً مدنياً، لكننا نود أن نعيد للحركة الطالبية زخمها المفتقد منذ السبعينات». تامر صبحي (17 عاماً) الذي نزل إلى المسيرة نفسها، لكن لأسباب مختلفة، يقول: «نحن نأمل بأن يستجيب الشعب لدعوات العصيان المدني أو حتى لإضراب عام بهدف إسقاط العسكر وتسليم السلطة فوراً لجهة مدنية».

وعلى رغم هذا الاختلاف الواضح في هدف المسيرة، كان كل منهما يهتف بالحماسة نفسها، ويشعر بشعور غامر من الفرحة، فرحة المشاركة الممتزجة بغضب سببه تدهور الأوضاع على الساحة السياسية والاجتماعية والأمنية. هذا التدهور الذي دفع أولئك الشباب إلى المسير هو نفسه الذي أدى إلى رد فعل سلبي جداً من كثيرين من المارة وأصحاب المحال. لقد رأوا في المسيرة إصراراً على الفوضى وتعميماً للصوت العالي على حساب العمل.

وتراوحت التعليقات بين «شوية عيال سيس (ضعاف)» و «لو طلب منهم محاربة إسرائيل لفروا جميعاً إلى مامي وبابي» و «كفاية بقى قرفنا مسيرات وتظاهرات. حرام عليكم»، واختفت تماماً مشاعر الود والدعم التي كان يظهرها أعضاء «حزب الكنبة» تجاه مثل تلك الفاعليات من توزيع زجاجات مياه أو حلوى أو حتى الدعاء.

من جهة أخرى، رأى الشباب المشارك في المسيرة أنه حان الوقت لتعتزل «مصر الهرمة» الساحة وتفسح المجال لـ «مصر الشابة». وتوضح سلمى فهمي (17 عاماً) أن مصر الهرمة ليست بالضرورة رموز النظام القديم أو حتى المتعاطفين معه، لكنها مصر التي كبرت وهرمت في السن. «ممكن أن نسميه إضراباً ضد تسلط الكبار. يجب أن نأخذ فرصتنا، وإلا سنهرم ونحن في انتظار فرصة لن تأتي أبداً».

الفرصة بالفعل قد لا تأتي أبداً، كما لم تأتِ للشهيد كريم خزام الذي قتل في مجزرة بور سعيد. والدته وشقيقته سارا إلى جوار المسيرة، وانفجرت الأم باكية حين هتفت المسيرة «في الجنة يا كريم». يقول أحمد ناجي (16 عاماً): «على رغم أننا جميعاً نأمل بأن نكون في الجنة، لكننا نأمل كذلك بأن ننعم ببلد جدير بأولئك الشباب الذين هم في مقتبل العمر. وهذا لن يحدث إلا بنا، لأن الأكبر منا أكثر خوفاً وتحسساً لخطواتهم. ولو انتظرنا، سنكون مثلهم. هي ببساطة مشكلة فرق في السرعات».

وسواء رأى البعض أن العصيان المدني نجح بنسبة 60 في المئة أو 40 في المئة، أم فشل بنسبة مئة في المئة، وسواء كان العصيان المدني هو المطلوب في هذه المرحلة أم لا، وسواء أضر بالبلاد أم أفادها، فالمؤكد أنه أظهر، أو بالأحرى أعاد تأكيد أن القادرين على إحداث التغيير الفعلي هم الشباب، سواء كان ذلك بعصيان أم بإضراب أم بأسلوب آخر لم يخطر في ذهن الكبار بعد. 

السابق
شيرين عبد الوهاب ممنوعة من الغناء في مصر
التالي
حرب: تمرد وزير على مجلس الوزراء سابقة تاريخية