الخطاب الديني اسير قبضات لا تدري وجهه ولا وجهته

لا يستطيع الإنسان التحلل من منطقته الروحية وصخب أسئلتها ,الإنسان في جزء مهم وأعلى من تركيبته روحاني الكيان,عُلوي الكينونة منشئا ومصيرا,وقد عملت الأديان على التغطية الكاملة لهذه المنطقة الوعائية الوجودية بما أتاح للإنسان التعرف على الصراط العروجي لكيانيته المرتبكة .
لا أستطيع فهمَ أو التفاهم مع صيغة تفكير أو منظومة خطابٍ ديني أو غير ديني يقوم في صلبه المُكَون على قواعد الإقصاء وتذويت وشخصنة المنطلقات في مجرى خطابها ومصباته,فالاديان بالرغم من ترسانة الحدود والضوابط والقوانين التي أرستها في نصوصها, جاءت لتدمير الحدود الفاصلة بين البشر ,وبعث الأنسنة المتوارية خلف جدرانها العازلة,وفراغها الفولاذي,الفواصل بين البشر ليست صناعة إلهية إطلاقا ,إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا,بالمعنى الواسع المكثف لمنطق التعارف ومدياته.
تضخيم الخصوصيات
التفرقة بين الناس ,بين المجتمعات والهويات,بمعزل عن تعددها الموضوعي برافعات مختلفة وطبيعية ,تقوم على قواعد التفتيت والتوظيف,وأحيانا كثيرة من منطلقات تضخم الأنا العليا في وعي الهويات الخاصة,عبر منظومة فهومات خاصة لتاريخيها التشكلي وتموضعها في الحلقة المنبثقة من تيار السماء في سياقها الخاص.
لم تشكل جغرافية الأنبياء التاريخية –أمكنة الدعوة –مناطق متعالية على جغرافية العالم وشاغليها بإستثناء رمزية ودلالات الأمكنة وحتى قداستها يمكن فهمها من هذا المنطلق, بما لا يمنع إدخال القوانين الفقهية والروحية المرتبطة بها الى دائرة إرادة الرمزية الملزمة أيضا,كما لم تتعالَ الصيغ الدينية اللاحقة على التاريخ الديني السابق -في المنطلقات الجوهرية- بمعزل عن التراكم التاريخي الملحق والمستتبع.
مكارم الاخلاق
إن مساحة الرسالة الدينية هي الإنسان كله ,وبمنطقٍ عقلاني واضح,يعتمد المعطيات والمآلات الماورائية كمنطلقات غائية ,وأرضية فهم وحراك وتحيث أرضي, ولا بدّ من إعتماده أيضاً على إبراز أبعاده القيمية الواضحة وغير الملتبسة في آفاق الملقي والمتلقي,وهنا تبدو القيم المشتركة بين البشر هي مناطق الإلتقاء العام وهي نفسها التي قعدتها الأديان بنى تحتية لكياناتها,إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق .
احيانا بينة تتصادم تلك الأسس والقواعد القيمية مع ما تحمله الأديان في بعض فهوماتها كنتيجة حتمية لمشيها على "الأرض" ,الدين الهي وسماوي حتما ,ولكن عندما ينزل الى الأرض هو يعطيها ويحاول مناضلا لإلباس الأرض ثوب السماء بمقدار,ومع هذا فإن الأرض وقوانين التشكل والصيرورة التاريخية تأخذ من الدين وتلبسه ثوبها دون أن تلغي خصوصيته وكلانيته,وللمحافظة على إشعاعاته الأولى نحتاج الى جهد كبير يسلخ الأردية المستحدثة والمُلصقة والمتورمة عن جسد الدين في طبعته وطبيعته وسيرته الاُولى
نجد ذلك واضحا عندما ننظر الى بعض "الأفكار الدينية" المُلَقّحة بنظرات عرقية,او جهوية,أو جغرافية,أو سياسية وهي الأخطر والاشد وطئا وفتكاً وتحميلا للمتخيل الإجتماعي الديني .
حراس النصوص
لذا نحن بحاجة مُلحة وعاجلة الى عملية تفكيكٍ لمنظومة "الخطاب" الديني وإعادة صياغته بقواعده وعلى أسسه هو, ولكن بحذر شديد,لا من حراس النصوص ,فلا يمتلك أحدُ سدانتها ولا سيادتها , ولا أعترف على الإطلاق بذلك الرهاب الذي يتملك أو يحيق بمن يريد إعادة العقلانية بمعناها الديني الوقور الى أحضان ومَنصات الخطاب نفسه.
إن مُجمل الخطاب الديني العُصابي الذي يعمل في المنطقة التاريخية من الدين, لا يخدم الدين على الإطلاق,بل على العكس يُنزل الدين من سدة سيادته العقلانية والحضارية الى مضائق العبور ,ويدخله وهو الأرحب الى كهوفٍ ومنغلقات لا مفاتيح لها,ويدمر مناطق الإشعاع السماوي على الإنسان,هكذا خطاب ينتمي الى العصور الفكرية الوسطى ,والأغرب فيه أنه يرى قيامته على أسس ومنطلقات وأهدافٍ دعوية, وتصحيحِ "إختلالات" التاريخ, وهو الأمر المستعصي على التحقق والتحقيق ,وتلك هي المنطقة القاتلة والمبعثرة لسياقات الاجتماع الاسلامي والعربي المبعثرة أصلاً.
لستُ مع إقفال التاريخ,وإحداث قطيعة معه,ولستُ مع الكيانات التاريخية المنغلقة على نفسها وحاضرها بمعطيات تاريخية .
استجرار تاريخي
ليس صحيحا القول إن شعوبا قطعت مع تاريخها بالمطلق,القطيعة الشاملة غير ممكنة ,الانبتار الكلي مستحيل,الانسان كائن متراكم,تقوم انتصاراته المتعاقبة على أنقاض هزائمه الملبدة,إن الذاكرة المحترقة هي التي تصنع حاضرا أخضرا,وعلى أكتافها تتدلى أغصانه النضرة,لذا لا بد من الإتصال التاريخي ولكن بالمديات المشرقة منه لا المظلمة ولا الظالمة,تلك مناطق إعتبار ,ومناطق تخلّص ,متى سنفرغ من أعنف عملية إستجرار تاريخي على الإطلاق في تاريخ التاريخ !!
يخطئ من يظن أنه بصراخ عبر حنجرة تاريخية قادر على إعادة توضيب الإجتماع الديني أو المذهبي في حقيبته ودائرته الفكرية الخاصة,لقد سالت دماءُ تسونامية على الهدف نفسه عبر التاريخ ولم تَستطع ليّ عنق الهندسة التموضعية لتوزع البشر على هياكل وخرائط انتماءاتها,فهل يمكن للمضطلعين بتفكير كهذا وممارسة إعادة تشكيل العالم الاسلامي والعربي بمحاضرات وخطب صاخبة على قواعد ضربات الجزاء في مباريات كرة القدم ,هي أوهام تصنع حقائق مرة فقط وفي حلق من يجيد ترسيم الحدود بين المرارة والمذاقات العذبة.
لذا لا بد من إعادة الروحنة والعقلنة بجرع عاجلة الى جسد الخطاب والتفكير الدينيين,نعم لقد غطت الأديانُ بقيمها العليا مناطق القلق الروحية,فلماذا لا يشعر الناس ببرودتها على قلب حاضرهم وتوجسات مستقبلهم,هذه حقيقة.
لذا فالخطاب الديني مدعو قبل كل شيء الى إعادة ترتيب أوراقه وأولوياته بما ينسجم مع إرادة الله الأعلى من كل إرادة , والخروج من أنفاق تحييث الدين وتأريشه وتأطيره داخل معلبات معدة مُسبقاً بعناية , مدعوون نحن أيضاً لتحريره من مكامن قبضاتٍ لا تدري لاوجهه ولا وجهته .

السابق
اغتيال مساعد في الامن ومقتل ستة مفقودين شمال غرب سوريا
التالي
علي فضل الله: لتنفيذ قرار الأجور بعد ولادته القيصرية