فئات لا تطالها الزودة

ينظر يوسف مطولا إلى الجريدة التي يحملها بين يديه، ليـقرأ عن «المسلسل المكسيكي» المستمر لقرار تصحيح الأجور. لا يعنيه الأمر بقدر ما لا تعنيه الصحيفة التي يحملها، فهو يشتريها لمدير الشركة التي يعمل فيها منذ ثلاث سنوات كـ«موظف خدمات مكتبية»، أو ما يعرف بالـ «office boy».
لن يطال يوسف أي تعديل أو زيادة على الأجر الذي يتقاضاه، بغض النظر عما يحصل في مجلس الوزراء أو غيره من الاجتماعات، لأن الوظيفة التي يؤديها ليست مسجلة على كشوفات الشركة، وبالتالي لا يغطيه الضمان الاجتماعي. وهو مع غيره من «العمال» لن يشملهم المرسوم الجديد الذي قد يقر في يوم من الأيام.
لم يتغير الكثير على يوسف منذ بدأ عمله في الشركة. في نهاية كل شهر يأخذ أجرهُ نقداً. هو الوحيد في المؤسسة الذي لا يحوّل له المعاش على حساب مصرفي، وهو أيضاً الوحيد الذي لا يرتقي أي سلم وظيفي أو سلسلة أجور. مرة واحدة فقط حصل فيها على زيادة بلغت خمسين ألف ليرة، بعد سنتين من العمل، وبعد أن تقدم بأكثر من طلب لإدارة الشركة، لكن هذه الزيادة كانت لمرة واحدة فقط واستثنائية.
 مسرحية.. الحد الأدنى

ينص قانون العمل اللبناني في المادة 44 منه على أنه «يجب أن يكون الحد الأدنى من الأجر كافياً ليسد حاجات الأجير الضرورية، وحاجات عائلته، على أن يؤخذ بعين الاعتبار نوع العمل…». لكن القانون لم يوضح ما هي هذه الحاجات الضرورية، بل تركها مبهمة تختلف بين أجير وآخر، وبين التقديرات المختلفة للحكومات اللبنانية المتعاقبة. بالنسبة ليوسف، هناك ثلاثة أمور أساسية ينفق عليها الـ500 ألف ليرة لبنانية التي يتقاضاها: مصروف البيت حيث يعيش مع والديه وأختيه، وتكاليف دراسة الأخت الصغرى، وما يتبقى له من المبلغ كمصروف لشاب يبلغ السادسة والعشرين من العمر.
تجزم غيدا، وهي تعمل مترجمة بالقطعة في إحـدى الشــركات، أن مرسوم تصحيح الأجور لن يُبت قريباً. وترى أن الموضوع ليس إلاّ «تسلية أو مزحة بين الأطراف المعنيين»، فلو كانوا جديين، بحسبـها، لشـمل القرار خطة شاملة للأجور تقوم على أساس علمي. ورغم أنها غير مشـمولة بالزيادة المزمعة على الأجور إلا أنها تتابع جولات «هذه المسرحية» كما تسميها. أما إذا أقرت الزودة، فإنه «من الطبيعي أن أطالب الشركة بمبلغ اكبر لقاء عملي».
وتضم فئة الأجراء والعمال غير المشمولين بتصحيح الأجور، شريحة واسعة من اليد العاملة اللبنانية (أصحاب المهن الحرة، العاملون بالقطعة، أجراء يوميين..) هي الأكثر تضررا من مفاعيل صراع الهيئات الاقتصادية ووزير العمل، ومعهم وبينهم الاتحاد العمالي العام. وستؤدي زيادة الأجور حتماً، في ظل غياب الرقابة، إلى ارتفاع في الأسعار، وهو ما بدأ فعلا مع بداية الحديث عن تصحيح الأجور قبل عدة أشهر. وبما أن أجور هؤلاء لن تتحرك عن الحد الذي ترسمه شروط العمل السيئة، فسيكون عليهم تحمل أعباء فوضى سوق العمل اللبناني.

شروط العمل.. والاستقالة

يحسب للشركات اللبنانية قدرتها المميزة على ابتكار أساليب التهرب من دفع المستحقات لموظفيها، أو التهرب من تثبيتهم في المؤسسة، وبالتالي تسجيلهم في الضمان، وصولا إلى إهمال حقهم في الترقيات. في أحد المصارف المعروفة في بيروت، تم تعيين مدير جديد للموارد البشرية بـ«مؤهلات خاصة»، يستطيع من خلالها أن يتخلص من أكبر عدد من الموظفين، من دون أن يكلف المصرف أعباء زيادة أجورهم أو دفع التعويضات المستحقة في حال صرفهم، بحسب موظفة في المصرف فضلت عدم الكشف عن اسمها. ومن أساليبه المبتكرة في دفع الموظفين إلى الاستقالة، نقل الموظفين من فرع إلى آخر بعيد عن مكان السكن، وهو ما حدث مع الموظفة ذاتها، التي كانت تعمل في فرع المصرف في بيروت منذ 5 سنوات، وتم نقلها إلى فرعه في الشمال، بعيدا عن مكان سكنها في العاصمة، ومن دون إبداء الأسباب الموجبة لذلك، ولا تعديل راتبها الذي كانت تتقاضاه، وهو ما دفعها في نهاية المطاف إلى ترك العمل، إلى جانب عدد من الموظفين الذين طالتهم قرارات مشابهة.
هؤلاء وكثر غيرهم في هذه المؤسسة وغيرها، سيحرمون من الزيادة المفترضة على الأجر، وذلك من خلال وضعهم أمام خيارين: إما القبول بأسلوب المؤسسة في تصحيح الأجور على طريقتها، وإما اختبار إبداعات مدراء الموارد البشرية.
لا يكفي أن يمرّ مرسوم تصحيح الأجور عبر كل المجالس والهيئات من دون أي اعتراض، ليحصل الموظفون على مستحقاتهم، فالمؤسسة لها دائما الكلمة الأخيرة مع موظفيها، في ظل ضعف رقابة الدولة على هذه المؤسسات. وهذه الكلمة الأخيرة قد تكون في كثير من الأحيان: «البطالة» للموظف.
نموذج موظفة المصرف يتكرر في مؤسسات كثيرة، بصيغ مختلفة، منها استعانة المؤسسة بعمال أو موظفين لفترة محدودة، تحت عنوان «التدريب»، ثم الاستغناء عنهم قبل زمن قصير من الحد القانوني الذي يفرض تثبيتهم وتسجيلهم في الضمان. وهؤلاء غالباً ما يتقاضون راتباً رمزياً، يقلّ عن الحد الأدنى للأجور، في مقابل ساعات عمل تفوق أحياناً الساعات التي يمضيها الموظفون الثابتون.
ليست المشكلة اليوم في موضوع تصحيح الأجور وإيجاد صيغة تمرّ عبر مجلس شورى الدولة، بل هي في غياب أي تقدير للقوى العاملة، التي من المفترض أن تشكل العصب الأساسي للدورة الاقتصادية في أي بلد في العالم. بينما تشكل هذه القوى في سوق العمل اللبناني الحلقة الأضعف في مقابل الدولة ورأس المال، طالما أن من السهل الاستغناء عن أي عامل أو موظف، واستقدام بديل عنه سيرضى بشروط عمل جائرة.. تحت ضغط الحاجة إلى رغيف الخبز. 

السابق
حوري: التمديد للمحكمة سيتم وهو خارج أي نقاش
التالي
العثور على مومياء مغنية المعبد الفرعوني