ولادة وطنيات جديدة في المنطقة

 يولد عالم وإنسان عربيين من جديد، يفتح على قوس واسع من الاحتمالات والفرص والآمال والمخاوف. لم يعد العالم العربي كما كان، ولن يعود ما كان، هناك قطيعة مع التاريخ القريب والبعيد، هذا أقل ما يُقال في البركان المتفجر في البلدان العربية. يكتشف العربي اليوم قدراته على صناعة التغيير، ويكتشف أنه يستطيع أن يكون ملهماً للآخرين. لم يعد العربي يخجل من أنه يحمل هذه الصفة، التي كانت تُشعره بالخجل حتى وقت قريب، كأنه خارج التاريخ العالمي وخارج الفعل الإنساني. لقد عاد إلى صناعة تاريخه وامتلاك حياته، قد يتعثر هنا أو هناك، لكنه بدأ السير على طريق لا عودة منه، طريق واضح رغم صعوبته وثمنه الكبير.
لم يكتشف قدرته بالمعنى العام للتغيير، أو قدرته على ذلك في الماضي البعيد، إنه يكتشف قدرته، اليوم والآن، على الإطاحة بالطغيان والاستبداد الذي يستوطن بلداناً لها جغرافيا محددة، بصرف النظر عن الكلام الذي يقوله الطغيان في تبرير ذاته. يقع الفعل التغييري العربي في الأوطان وتحت شعارات داخل الأوطان ذاتها وتهتم بها، وتستهدف الاستبداد بشكل مباشر، فهي لا تذهب بعيداً في شعارات لتغطي عجزاً ذاتياً، شعارات غير قابلة للتحقيق، في الوقت الذي تمت مصادرة الأوطان تحت ذريعة هذه الشعارات.
نحن عرب، هذا صحيح، ولكننا قبل أن نكون كذلك، نحن أبناء الأوطان الصغيرة، نحن تونسيون ويمنيون ومصريون ولبنانيون وليبيون…إلخ هل هذا اكتشاف جديد؟ نعم، تقول الثورات العربية، إنه اكتشاف جديد. هناك وطنيات جديدة تولد في المنطقة، ليس بالضد مع الجامع أو الجوامع العربية، لكن الجامع العربي كما ظهر في ظل سلطات الاستبداد لا يحل مشاكل الأوطان، هو أحياناً يخفيها ويحاول كنسها تحت السجادة. لم تكن شعارات الثورات العربية التي انطلقت من تونس شعارات قومية كتلك التي شهدتها المنطقة في الخمسينات، تلك التي أطلقتها انقلابات عسكرية أطلقت على نفسها اسم "ثورات". ما نشهده اليوم هو الثورات الحقيقية، الثورات، هي أن تقرر الجماهير أن تنزل إلى الشارع لتغير مسار التاريخ وإخراجه من الاستنقاع الذي أصاب مجتمعاتنا. هذه هي الثورات التي نشهدها اليوم، تريد أوطاناً يستحق سكانها أن يكونوا بشراً محترمين لا قطيعاً يُقاد بالعنف العاري، بشر يحددون طريقهم ومستقبلهم بإرادتهم الحرة، لا أن يكونوا جزءاً من قطيع يُقاد إلى حيث لا يريدون، إنهم ببساطة يريدون أن يكونون ما يشاؤون، لا ما يشاء غيرهم. بالطبع الطريق إلى المستقبل ليس مفروشاً بالزهور، إنه وللأسف مفروش بالدماء.
تعمل الثورات العربية على إعادة الأوطان إلى أصحابها، أو بالأصح يستعيدها أصحابها من الذين حكموهم بالحديد والنار طوال عقود. إنهم يريدون ترتيب أوطانهم بما يتناسب مع كونهم بشراً قادرين على صناعة حياتهم، فهم يدركون أن الاستبداد لم يحل مشاكلهم على مدى عقود ولن يحلها في المستقبل. أدركوا اليوم أن مشاكلهم لا تُحل إلا بالعمل الجاد والدؤوب والمضني، لا بالخطابات الفارغة من المعنى، ومن يريد أن يبني عليه أن يطرح شعارات ملموسة في وطن ملموس، وأن يتخلص قبل ذلك من الاستبداد الذي أعاق هذه البلدان طوال العقود المنصرمة. وهو يريد التعامل مع وطن ملموس، هو الذي يعيش فيه المواطن العربي، هو تونس ومصر وليبيا والعراق… لذلك لم تحمل الثورات العربية شعارات قومية تماثل تلك الشعارات التي عرفتها المنطقة في الخمسينات والستينات، حيث ذهب الاستعمار إلى غير رجعة وبقيت شعارات التخلص منه تثقل على كاهل الشعوب العربية. رُفعت شعارات الصراع مع إسرائيل، وخسرنا المعارك معها واحدة تلو الأخرى، وهناك من وقع اتفاقات سلام مع إسرائيل وبقي يجلد شعبه ويدوسه بحجة الصراع العربي – الإسرائيلي. لقد تم تأجيل كل شيء في المنطقة من أجل معارك لا أحد يعرف معناها، تعفنت المنطقة وهي تنتظر ما لا يأتي، تعفنت وشعوبها تنتظر العيش مثل باقي شعوب العالم، وكان كل ما تحصل عليه المزيد من الإذلال تحت شعارات كبيرة. طفح الكيل وعرفت الشعوب في المنطقة، أن الانتظار لا ينتج سوى المزيد من الإذلال وخسارة المزيد من الحقوق، ولأنه لا يمكن خوض المعارك الكبيرة بدون بناء الأوطان، التي لا تبنى إلا من الحي الصغير إلى المدينة، من رصيف الشارع حتى قبة البرلمان. من يبني هذه الأوطان هم البشر، الذين يشكلون الأساس الأول والأخير لكل وطن كبر أم صغر. من القضايا الصغيرة والكبيرة تحركت الشعوب واحتلت الميدان العام لتعلن عن وجودها النهائي على الخريطة السياسية لمجتمعاتها وأوطانها، ولتعلن أنها هي وقضاياها هي الأوطان ولا وطن غيرهم. لذلك لا يمكن اعتبار غياب الشعارات القومية عن الثورات العربية نقيصة، لأن الوطن الخراب لا يصلح ليدير أي صراع. من الواضح اليوم، أن هناك وطنية جديدة تولد في البلدان العربية، هذه الوطنية تُبنى من الإنسان ومن قضاياه الملحة، ليست من قضايا كانت سيفاً مصلتاً على رقبته، دفع ثمنها من ماله وكرامته وحريته حقوقه، من دون الوصول إليها. البلدان القوية ببنائها القوي هي التي تمنح المحيط ودول الجوار القوة، هذه القوة لا تُبني من مواد الاستبداد والطغيان، إنها تبني من مواد الحرية والديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان وتداول السلطة.
نعم الثورات تدور حول قضايا وطنية محلية، وهذه ميزة وليست عيباً لهذه الثورات، أهلاً بثورات تؤمن بقدرة وحقوق شعوبها في إدارة حياتها، أهلاً بدول شفافة تحترم ذاتها. من هذه الأوطان والوطنيات الجديدة تولد المنطقة من جديد، تولد وهي تفخر بنفسها، بأنها باتت ملهمة التغيير في عالم اليوم.
 

السابق
بين عرسال وكفرسوسة… أين الحقيقة؟
التالي
أمثولة الميلاد لربيع الثورات