التقوقع المسيحي يُطيح المناصفة···

يُعاني اللبنانيون الميثاقيون من ارتدادات الصدمة التي داهمتهم في اللقاء الماروني الموسّع، بعد ترجيح كفة المطالبين بنقض اتفاق الطائف، والعودة إلى خيارات الانعزال والتقوقع، التي كانت سائدة في السبعينات، والتي ساهمت في تفجير الحروب، وإنزال أبشع الويلات بالبلاد والعباد!·
لم يكن يخطر في بال أهل الميثاق ورواد الوحدة الوطنية، من مسلمين ومسيحيين، أن تتجرأ لقاءات بكركي على تبنّي الاقتراحات والمشاريع السياسية والانتخابية، التي تؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى فكّ الشراكة بين اللبنانيين، والعودة إلى نغمة الكانتونات والتقسيم، والتخلّي عن كل أطر ومبادئ الانصهار الوطني··· تحت شعار <استعادة دور المسيحيين>، أو حتى <العمل على تصحيح التمثيل المسيحي وتفعيله في الحكومة وفي مجلس النواب>··· كذا إلى آخره!·

وعوض البحث في تصحيح الخلل، أينما وُجد، وخاصة في قانون الانتخابات، سواء الستيني أو ما سبقه من قوانين، وذلك في إطار الوحدة الوطنية وتعزيز صيغة العيش المشترك بين اللبنانيين، تركزت النقاشات على كل ما من شأنه تكريس التباعد بين اللبنانيين، وتعميق الهوّة بين الطوائف، والابتعاد عن كل ما هو مشترك، أو يُفترض أنه مشترك، بين أبناء الوطن الواحد، وذلك من خلال تبنّي اقتراح <اللقاء الأرثوذكسي> المنادي بأن ينتخب المسيحيون نوابهم، وبالتالي بأن تستقل كل طائفة باختيار ممثليها من نواب وسياسيين!·

يرفض اللبنانيون الميثاقيون الانجرار إلى الخطاب الطائفي، والانزلاق إلى الزواريب الطائفية والمذهبية البغيضة· ولكن ذلك لا يعفي أهل الميثاق وروّاد الوحدة الوطنية من توصيف الأفكار المطروحة، سواء في اللقاء الأرثوذكسي أو في اللقاء الماروني في بكركي، بأنها اقتراحات تقسيمية بامتياز، تتناقض كلياً مع وثيقة الوفاق الوطني، والدستور الحالي المنبثق عنها، وتتجاوز برجعيتها قانون انتخابات عام 1960، الذي بُعث حياً في الانتخابات الأخيرة، وتعود بالنظام اللبناني إلى عهد المتصرفية، قبل حوالى قرنين من الزمن، يوم كانت كل طائفة تختار ممثليها في مجلس المتصرفية!!·

لسنا بصدد الدفاع عن وثيقة الوفاق الوطني التي أُقرّت في اجتماعات الطائف، وأنهت الحرب المدمرة، وكرّست الإصلاحات السياسية والدستورية <التي أنتجت الجمهورية الثانية>، حسب بيان بكركي نفسه·

ويكفي أن نستعرض بعض العبارات والمصطلحات التي وردت في البيان المذكور، حتى نتبين مدى التناقض الحاصل بين بعض الفقرات من جهة، وبين مضمون البيان ومضمون وثيقة الطائف التي استشهد بها البيان أكثر من مرّة·

في المقدمة التمهيدية الأولى أورد البيان الفقرة التالية حرفياً:

– إن المناصفة أو الشراكة الحقيقية بين المسلمين والمسيحيين هي مسألة ميثاقية تتخطى أي اعتبارات أخرى، ديمغرافية كانت أم سياسية، والتفريط بها يسبب حالة عدم استقرار على مستوى النظام السياسي اللبناني، وتهديداً للوحدة الوطنية، إلى حدّ فتح الباب على إعادة النظر في صيغة لبنان الحالية برمتها·

والسؤال: كيف يتم تحديد الخيارات الوطنية انطلاقاً من المعطيات الميثاقية والتأسيسية الواردة في الفقرة السابقة··؟·
هل عبر الخروج من صيغة الانصهار الوطني التي نصّت عليها وثيقة الوفاق الوطني، وإعلان استقلال الطوائف في اختيار ممثليها؟·

ومَن قال أن سلخ المسيحيين عن مواطنيهم المسلمين يُعزّز مبدأ <المناصفة أو الشراكة الحقيقية>؟·

مَن يضمن بقاء العمل بمبدأ المناصفة في حال المضي بمبدأ انتخاب المسيحيين لنوابهم، الذي ينسف قاعدة المساواة بين المواطنين، على اعتبار أن ثلث اللبنانيين يختارون نصف عدد النواب، في حين أن الثلثين الآخرين يختاران النصف الآخر، من دون الأخذ بعين الاعتبار لمبادئ التمثيل الديمقراطي القائمة على النسبية العددية للمقترعين مع تحديد عدد ممثليهم لكل دائرة· (القاعدة المتّبعة في لبنان: 25 ألف ناخب لكل نائب)·

{ وماذا يكون مصير أصوات الأقليات المسيحية في الدوائر ذات الأغلبية الإسلامية (الكاثوليك في البقاع الغربي مثلاً)، أو أصوات الأقليات الإسلامية في الدوائر ذات الأكثرية المسيحية (السنّة في قضاءي الكورة والبترون، والشيعة في قضاء كسروان مثلاً) حيث لا يسمح عددهم بتخصيص مقعد نيابي لهم؟·

وحبل التناقضات طويل ومتشعب··· ولا تتّسع له هذه المقالة!·

ورب قائل: وكيف <نُصحّح> التمثيل المسيحي ونُعزز فاعليته؟·

من المؤسف فعلاً بروز قناعات عند بعض القيادات المسيحية تعتبر بأن <تحرير النائب المسيحي من الصوت المسلم> من شأنه أن يؤدي إلى استعادة فاعلية التمثيل المسيحي في مجلس النواب والحكومة·

وقد يكون غاب عن بال أصحاب هذه القناعات، أن فصل الصوت المسيحي عن شريكه المسلم، من شأنه أن يُنمّي مشاعر الانعزال والتقوقع، مما يؤدي إلى الترويج للتيارات الدينية، أو حتى السياسية، المتطرفة، التي لا تطيق الاعتراف بالآخر، ولا ترى ثمة مصلحة لها بالتعاون مع الآخر، الأمر الذي من شأنه أن يقود إلى حروب على شاكلة حرب داحس والغبراء أيام الجاهلية الأولى!·

في حين أن أهل الميثاق يعتبرون أن تعزيز الدور المسيحي، تمثيلاً وقيادة، يكون بالخروج من الشرنقة الطائفية والمذهبية الضيّقة، وتشجيع نشوء الأحزاب السياسية المختلطة، طائفياً ومناطقياً، والعمل جدياً على تطبيق ما تبقى من بنود وثيقة الوفاق، وخاصة بالنسبة لتطبيق اللامركزية الإدارية، وإعادة الاعتبار لدور الدولة والمؤسسات الرقابية، بما يؤدي الى تقوية الشرعية، وتعزيز الشعور بالمواطنية الواحدة، والولاء للوطن أولاً، لا للطائفة، عند كل لبناني، وخاصة أهل السياسة، وتجّار الطائفية!·

إن رواد النهضة العربية الحديثة كانوا من المسيحيين المتنورين الذين لم تأسرهم مشاعر الأقلية، ولم تعطّل فاعليتهم عقيدتهم الدينية، ولم يستسلموا للقلق على وجودهم ودورهم بسبب وجودهم في هذا البحر الإسلامي المترامي الأطراف، بل على العكس تقدّموا صفوف إخوانهم المسلمين، وقادوا مسيرة نهضوية فكرية ولغوية، سياسية وحزبية، ما زالت بصماتها واضحة في تاريخ الأمة·

إن حماية الوجود المسيحي في الشرق، وتعزيز الدور المسيحي في الحياة السياسية اللبنانية لا يكون بعزل المسيحيين عن مجتمعهم الوطني، ولا بالارتداد إلى فترات العزلة والتقوقع، بل بالعمل على تشجيع ثقافة الانفتاح والحوار، وتعزيز التعاون مع الشريك المسلم في نشر مبادئ العدالة والمساواة بين أبناء الوطن، واعتماد الكفاءة والنزاهة بدل المحاصصة الطائفية والمذهبية في الإدارات العامة·

أما الإخلال بالقواعد التي أرساها دستور الطائف، وخاصة ما يتعلق منها بالعيش المشترك والانصهار الوطني، فمن شأنه أن يفتح أبواب جهنم على وثيقة الوفاق الوطني، ويُطيح بمبدأ المناصفة الذي ارتضاه المسلمون، ليكون مدماك ثقة، وضمانة العيش المشترك مع إخوانهم المسيحيين·

السابق
قبعة المالكي وحرير الأكراد
التالي
ورطة المجلس العسكري