وفقا لمصالحها الخاصة…هل تضغط إسرائيل باتجاه بقاء النظام السوري؟

ها هي إسرائيل ترتعد أواصرها من الخوف على المصير, ومن الآتي الأعظم, وهي تشاهد تهاوي كل الأنظمة الديكتاتورية المجاورة, التي كانت تؤمن لها بطريقة ما الارتياح والضمانة لوجودها واستمرارها, وتعتمد عليها من أجل الاستقواء والتعنت. لم يخفِ نتانياهو كما باقي القادة العسكريين الإسرائيليين تخوفهم من انعكاسات الثورات العربية, فأعرب من على منبر الكنيست عن قلق حقيقي حول احتمال انهيار العائلة المالكة في الأردن, كما أعرب عن قلق أكبر حيال سقوط النظام السوري الذي بات يراه آتياً لا محالة. أما وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك فلقد أشار في كلمة القاها أمام منتدى أمني في مدينة هاليفكس الكندية إلى ان الرئيس الأسد تجاوز نقطة اللاعودة, وبأنه سيواجه مصير الزعيمين السابقين الليبي معمر ألقذافي والعراقي صدام حسين. وعن تأثير سقوط النظام السوري على "حزب الله" أكد باراك ان "سقوط النظام في سورية سيضعف "حماس" و"حزب الله" الأمر الذي لم يعد جيداً فقط لإسرائيل بل لمنطقة الشرق الأوسط برمتها". هذا في وقت شدد نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الشؤون الستراتيجية فيها موشيه يعلون على أن "تغيير النظام في سورية هو أمر محتوم".

يبقى أن كل هذه المواقف العلنية, هي في كفة, وتخوف إسرائيل بل رعبها وهلعها من الانعكاسات السلبية التي قد تصيبها نتيجة سقوط النظام السوري في الكفة الراجحة الأخرى. فهي على إجماعها العلني لتأييدها لهذا السقوط, يظل يشوب موقفها الكثير من التضعضع والإبهام, ناهيك عن الضبابية والمزايدة لتغطية هذه المخاوف الحقيقية, المتأتية بمجملها من حتمية اضطرارها مستقبلاً إلى تغيير سياستها في المنطقة, إن في التعامل مع القضية الفلسطينية, أو في نوعية علاقتها مع العالم العربي, تماشياً مع احتمال حلول أطراف إسلامية راديكالية وربما "إرهابية" بالمفهوم الإسرائيلي, أي بالمفهوم الذي تراه يهدد استمرارها في المنطقة.

ولقد زادت من مخاوف إسرائيل التصاريح والمواقف الصادرة عن أطراف إقليمية ودولية ومنها التحذير الذي جاء على لسان وزير الخارجية الروسي بالذات سيرجي لافروف, إذ أشار إلى أن إسرائيل هي في خضم بحر هائج تتلاطمه الأمواج الغاضبة من كل الجهات. فالحدود المصرية لا يمكن اعتبارها هادئة بعد وصول التيارات الإسلامية إلى سدة السلطة, زائد الحدود المتوترة تقليدياً مع الفلسطينيين, واحتمال اشتعال جبهة الجولان, ناهيك عن جنوب لبنان. وترى بعض الأوساط المراقبة أن جملة هذه المخاوف قد تدفع بالحكومة الإسرائيلية إلى إعادة النظر في مقاربتها السابقة للازمة السورية حيث أنه قد لا يكون مستبعداً أن تعود فتلتزم بنصيحة رامي مخلوف قريب الرئيس السوري, والذي كان حذرها في السابق من المساهمة في الدفع باتجاه سقوط النظام حين أعلن على الملأ بأن "أمن إسرائيل من أمن سورية".

يبقى السؤال الأهم الجالب للتخوف الحقيقي يدور حول الحجم الذي يمكن أن يؤديه عامل "الخشية على استقرار إسرائيل" في معادلة الموقف الدولي المرتبك إزاء سورية. وحول مدى تأثير هذه الخشية في تأرجح قرار المجتمع الدولي في حسم مسألة التدخل الخارجي في سورية. وتساؤل آخر حول احتمال تفسير وفهم التلكؤ الحالي للموقف الغربي في اتخاذ خطوات ضغط حقيقية ضد النظام, من هذا المنطلق أي بسبب ورود هكذا احتمال, وبسبب الضغط الذي يمارسه المجتمع الدولي نزولاً عند رغبة إسرائيل على الجامعة العربية. وعلى خلفية حاصل الجمع بين هذين التخوفين يمكن أن نقرأ كثيراً من التردد الغربي والكثير من التصريحات التي تقول أن سورية ليست ليبيا. وربما يرد في هذا السياق انتقاد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للدول الغربية بسبب مواقفها المتراخية إزاء سورية, ومقارنته هذا التراخي مع التشدد والحماسة التي ابدتهما تلك الدول في الحالة الليبية, ومتهكماً بأن هذا التراخي مرده لعدم وجود نفط يثير شهية الغربيين كما هو الأمر في ليبيا. صحيح أن هناك رغبة غربية وعالمية بتغيير النظام في سورية وهي رغبة واضحة. لكن التخوف الحقيقي هو أن يتفاقم أثر العامل الإسرائيلي بحيث يُصار إلى ترتيب حل وسط يحافظ فيه النظام القائم على وجوده, وبالتالي استقرار إسرائيل, على حساب الشعب الثائر ومطالبه. بالمقابل قد يسعى النظام لتقديم كل التنازلات الممكنة من أجل البقاء. والبوابة الإسرائيلية هي أقرب وأسهل البوابات لذلك وأكثرها نفعاً.ليس في هذا التقدير اي مبالغة مجافية للسلوك السياسي المعهود عن نظام البعث في سورية, بل تدعمه شواهد عديدة على مدار العقود الأربعة الماضية تؤكد أن حجر الزاوية في سياسة النظام هي اللعب على مسألة "الصمود والتصدي" لفظياً وخطابياً, بينما واقع الأمر لا يتعدى التسليم لإسرائيل بما تريد. لذلك كان حريصاً على بقاء حالة "اللاحرب واللاسلم" مع إسرائيل منذ حرب اكتوبر عام 1973. وفي الوقت الذي لم يكن فيه هناك أي جهد حقيقي لتحرير الجولان المحتل, فإن تصريف ذلك الصمود اللفظي كان يتم من خلال تخريب لبنان جملةً وتفصيلاً. فهناك ادعى النظام بأنه يساند منظمات المقاومة الفلسطينية, وهي التي حاصرها في تل الزعتر وحاربها, ثم تركها لقمة سائغة أمام الاجتياح الإسرائيلي العام 1982. وفي تلك السنوات ورغم الاحتلال الفعلي للبنان من قبل الجيش السوري, إلا أن ذلك الجيش اختفى تماماً من لبنان عندما دخل الإسرائيليون وتركه ومن فيه يواجهون مصيرهم, بل وقف "جيش الصمود البعثي" يراقب احتلال أول عاصمة عربية, بيروت, من دون أن يطلق رصاصة واحدة على المحتلين.
خلال عقود الاحتلال السوري للبنان والاحتلال الإسرائيلي لجنوبه كانت هناك معادلة "الخط الأحمر" التي رسمها الإسرائيليون للوجود السوري هناك واحترمها النظام ولم يمسها على الإطلاق. بل إن نوعية سلاح الجيش السوري وكمياته كانت خاضعة لتوافقات ضمنية. وعندما انسحب الإسرائيليون من بيروت عاد الجيش الأسدي المظفر للظهور, محاصراً الفلسطينيين مرة أخرى, ومشجعاً على الانقسامات بينهم, ثم ليخوض حرباً بشعة ضد المخيمات ما زالت جروحها طازجة في الذاكرة الفلسطينية.

المهارة الوحيدة التي أتقنها الأسد الأب وتلقفها الأسد الابن كانت تكمن في كيفية الحفاظ على نظام البعث والقضاء المبرم على اي حياة سياسية صحية في سورية. وإكسير الحياة لبقاء النظام كان ولايزال الاعتياش على شعارات "الصمود" أمام إسرائيل التي كانت راضية عن الأمر الواقع واحترام النظام وخضوعه للخطوط الحمر التي ترسمها له. وفي هذا الإطار كان بقاء احتلال الجولان ضرورة حياتية للنظام بسبب ما يوفره من مسوغات دائمة لقمع الداخل بدعوى أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ولأن النظام مشغول في إحداث "التوازن الستراتيجي" مع إسرائيل. لنتخيل للحظة لو أن الجولان لم يعد محتلاً, وأنه عاد إلى سورية حرباً أو سلماً, فماذا يتبقى من شرعية أو مسوغ للنظام? ولهذا فإن كثيراً من القراءات التي عملت على تحليل السلوك السوري حتى في المفاوضات السلمية بين سورية وإسرائيل كانت تصل إلى النتيجة نفسها وهي أن التصلب السوري قصد دوماً عدم التوصل إلى اتفاق, لأن عودة الجولان وتحريرها سيكشف ظهر النظام ويفقده القضية الأساسية التي من دونها يفقد مبرر وجوده. استقرت إسرائيل وأمنها على تلك المعادلة ومن المفهوم أن تقلق الآن وبعمق إن تفكك النظام في سورية, وربما هي تعمل جاهدة في زواريب مراكز القرار الدولي, لمنع هذا السقوط, وتساهم في تأخير تدخل المجتمع الدولي لحسم عملية الإبادة الجماعية للشعب السوري الممارسة من قبل النظام الدموي البائد.  

السابق
المشرق العربي والمتغيّرات الإستراتيجية
التالي
الاعلام الغربي يؤكد على الضربة القاضية لـCIA من حزب الله