الحقيقة؟ أين الحقيقة؟

لم تعد الصورة المتلفزة تكفي. وكذا حال الصوت المتقلّب بين جهوري وخافت. حتى الإصبع المهدّد لم يعد يفي بالحاجة، والحشد لايكفي مؤشّرا إلى التأييد والتواصل بين "الأمين العام" وجمهوره. كلّ ذلك لا يكفي للتعمية على شكّ بدأ يداخل هذا الجمهور بصدقيّة "الوعد" وسلامة الرؤية السياسيّة. فالمحكمة" الأميركية – الإسرائيلية" نالت النصيب اللبناني من تمويلها، وبقرار من حكومة الحزب نفسه، التي شُكّلت، أساسا، "للتصدّي للمجتمع الدولي" وإعطائه الدروس "العونيّة" في السيادة.

كان فنّ صناعة الرأي العام يقتضي "نقلة" نوعيّة في تلك اللحظة، وهو ما وعاه مسؤولو "العلاقات العامّة" الخاصة بالأمين العام، لذا جاء إلى ملعب الراية الشهير، وبدل أن يسأل عن مصير رفضه سداد لبنان التزاماته تجاه المحكمة الدوليّة، صارت تساؤلات جمهوره، عن مدى "جرأته" في تحدّي المخاطر على حياته، خصوصا أنّ التبريرات التي أعطيت منذ ما بعد حرب تمّوز2006، لتجنّبه الظهور المباشر، هي التهديدات الإسرائيليّة لحياته.

لكنّ السؤال الحقيقيّ لم يطرح: هل كان لدى "الأمين العام" تطمينات إسرائيليّة – طبعا عبر وسطاء، كما فعل الفرنسيّون بعد وقف إطلاق النار عام 2006 – كي يجرؤ على مغادرة مخبئه، أم يعتقد أنّ محيطه بات نظيفا تماما من عملاء المخابرات الإسرائيلية والأميركيّة بعدما قبض على العملاء الثلاثة القياديّين الذين أنكر في السابق وجودهم، ونفى انكشافهم.

لا أحد ينتظر جوابا أو يتوقّعه. كما لا ينتظر أيّ كان جوابا عن سؤال آخر هو من أين لـ"الأمين العام" هذه المعاندة في التمييز الفظّ بين الانتفاضات الشعبية العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبين الحدث السوريّ؟

ففي تونس، يرى "الأمين العام" أنّ "الشعب انتصر على طاغوته وأجرى انتخابات، والمؤمّل من القوى الإسلامية والوطنية أن تكون بمستوى آمال وطموحات هذا الشعب التونسيّ الشريف والعزيز". وفي ليبيا "انتصر هذا الشعب على طاغوته، وأيضاً القوى السياسيّة مسؤولة عن تحقيق طموحات هذا الشعب الذي قدّم آلاف الشهداء". أمّا في اليمن فـ"ما يزال التحدّي كبيراً وقائماً، وهناك من يحاول أن يمزّق اليمن ويعيد إليها أجواء الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة لتصفية الثورة وأهدافها وطموحاتها".

ويشهد "الأمين العام "في مصر"تحوّلات كبيرة اهتزّت لها إسرائيل وتحدّث عنها باراك بقلق"، أمّا في البحرين فـ"ما زال شعبها يواصل حركته السلميّة بالرغم من كلّ القمع وكلّ الخداع وكلّ النفاق، وهو مصرّ على أن يحقّق أهدافه الوطنية المشروعة".

في الدول السابقة "طواغيت" مقابل حركات سلمية وطموحات شعبية. يعترف الأمين العام بذلك في خطابه، في العاشر من محرم، لكنّه يتراجع في الخطاب ذاته ليقع في نقيضه، حين يقول، وفي السياق نفسه "ما يجري في منطقتنا وسوريا وتهديد إيران، وقصة السفير السعودي بواشنطن، وكلّ هذا الذي يُعمل في المنطقة هو لإشغال شعوب المنطقة عن أن تشهد بعينيها وبوعيها هزيمة الجيش الأميركي الذي قدّم نفسه قوّةً عظمى وحيدة في العالم، يهزمه شباب العراق ومجاهدو العراق".

في ذلك اضطراب سياسيّ. فهل يرى "الأمين العام" أنّ هذه الثورات العربيّة صناعة أميركيّة، وأنّ " الطواغيت" لا يستحقّون السقوط، ويتلكّأ عن قول ذلك، أم أنّ هؤلاء كانوا أنصار واشنطن وحكّاما بالظلم، من حقّ شعوبهم أن تطيح بهم؟

الجواب، في موقفه – الذي يصفه بأنّه واضح – ممّا يجري في سوريا: "نحن موقفنا منذ الأيّام الأولى موقف واضح، نحن مع الإصلاح في سوريا، ونقف إلى جانب نظام قاوم ومانع ودعم حركات المقاومة، ونقول نعم لمعالجة كلّ أسباب وظواهر الفساد أو الخلل، نعم لكلّ الإصلاحات التي قبلت بها ـ في الحقيقة ـ القيادة السوريّة وينادي بها الشعب السوري. (استخدام جملة "في الحقيقة" لها في التحليل النفساني للخطاب معنى معاكس لا يؤكّد المقصود من استخدامها). التغيير الذي يطالبون به وينادون به في سوريا، لمصلحة القدس؟ لمصلحة الأمّة؟ لا".

خلاصة الخطاب أنّ "مصلحة الأمّة" ، من زاوية "الحزب القائد"، في ما يجري في البحرين، وإلى حدّ ما، في ما يجري في مصر، مع تسليمه بما جرى في ليبيا وتونس وقلقه على اليمن. أمّا في سوريا فعنوان موقفه أنّ النظام مع الحزب، لذا فالحزب معه، ومع وعوده بالإصلاح. وهو موقف يلاقي فيه الحزب نفسه منذ تحوّل العمل المقاوم من وسيلة إلى هدف بذاته، وصار الحفاظ على البندقية هو الأولويّة والأساس، ولأجله يُقبل على طاولة الحوار في لحظة الحصار السياسيّ ليماطل في وضعه تحت سلطة الدولة، وليخون من يريد لهذه الدولة أن تكون قوية وسيّدة، أكثر سلطة بسلاح المقاومة في يدها.

إنقلب الحزب على الداخل اللبناني، الذي أيّده، منذ استنتج أنّ دور التحرير الذي احتكره انتهى مع انتهاء الاحتلال الإسرائيلي. واليوم ينقلب على الداخل العربيّ، الذي دعمه، إذ يستنتج أنّ دوره الإقليمي مهدّد بالتغييرات الآتية ، تحديدا في سوريا.

يلوم "الأمين العام" رئيس المجلس الوطني السوري برهان غليون لقوله إنّ سوريا، ما بعد النظام الراهن، ستتوجّه إلى المجتمع الدولي لإنهاء احتلال الجولان: "يريدون أن يلقوا بأنفسهم من جديد في أحضان المجتمع الدولي من أجل الجولان. هذا هو الطرح البديل، السلطة البديلة، النظام البديل". يقول ذلك من دون أن يتذكّر، أو لا يريد أن يتذكّر، أنّ النظام لم يطلق رصاصة لتحرير الجولان منذ حرب تشرين 1973، والمرّة الوحيدة التي خُرق فيها خطّ وقف إطلاق النار كان في أيّار الفائت، وبأجساد الفلسطينيّين اللاجئين في سوريا.

لا ينظر الأمين العام إلى العالم بعينيه، بل بفوهة سلاحه، الذي يوم بدأ اللبنانيّون يتساءلون عن مصيره بعد التحرير وضعه في موقع المقدّس ليقطع الطريق على النقاش فيه، وليهدّد بقطع اليد التي قد تمتدّ إليه. ما يجري في سوريا يهدّد طريق هذا السلاح إلى الحزب، أفلا يبدو تلقائيّا ألّا يرى في السوريّين المنتفضين لحرّيتهم والديموقراطية أدوات للأميركيّ لـ"يعوّض عن هزيمته في العراق" و"لينهوا علاقة سوريا مع حركات المقاومة في المنطقة"، من دون أن يحدّد أين هي هذه الحركات، وأين تقاوم ميدانيّا، إلّا إذا كان يقصد المقاومة بـ"أضعف الإيمان"، وهي ممّا لا يرى بالعين.  

السابق
غصن: قرار تصحيح الأجور إهانة للعمال ,كل ما نوافق عليه نعلنه جهارة
التالي
تحالف الضرورة