العاشر في النبطية وجوارها: لا يمر بغير سواطير !!

في العاشر من محرّم يخضّب الدم مدينة النبطية. يفترش شوارعها ساقطاً من رؤوس المطبّرين، المصرّين على ممارسة هذا التقليد، رغم رفض واسع للظاهرة في محيط المدينة. لم تفلح الفتاوى في ثني «ضاربي الحيدر» عن شق رؤوسهم بالسيوف. جزء يسير من الجمهور «يتفهم» العادة القديمة، واضعاً إياها في خانة «طقوس عاشوراء»، فيما يصرّ جزء آخر، على أنها أمست «موضة» مسيئة إلى الذكرى، ولا تشبهها إطلاقاً

هم وارثو الفاجعة قبل أيّ شيء آخر. يتعمّدون وراثتها على طريقتهم. يتذكرونها بالسيف والدم. كربلاء تمر في النبطية كلّ عاشر من محرم الهجري. يبدأون العرض باكراً. في السادسة تتسع المدينة للجميع. للفضوليين الذين يحيون المجزرة العابرة، ولأفواج الضاربين رؤوسهم بالأمواس. يروح الشبان ويجيئون من الحسينية وإليها، حاملين سيوفهم، متأنقين بالأبيض، فيما تصطف العائلات والشابات على الأطراف. ويتواصل العرض. في العاشر يضعون الأسود جانباً، ويجهزون أنفسهم للذكرى. تقول عجوز أتت تتباهى بابنيها المطبرين إن «التقليد قديم». تذكره حين كانت هي صغيرة ولم يكن في النبطية مبانٍ. كانت الساحة أوسع ولم يكن أحد يعتمد على مكبرات الصوت. كان الطقس حقيقياً، وعدد المطبرين قليلاً، لأن الناس كانوا قليلين، بينما الظاهرة كانت أكثر رواجاً.
الكبار يعرفون طفولة الصغار، فقد كانوا مثلهم يشقون رؤوسهم إكراماً لذلك المقدّس. ثمة رجل أربعيني يطبّر منذ كان طفلاً وأول من أمس أحضر طفله. في الحسينية يقومون بالعمل الصعب. يشطبون الرأس قليلاً، وبفعل اللطم عليه، الذي يعلمه الحلاقون لـ«ضرّيبة الحيدر»، يفرّ الدم رويداً رويداً حتى يصبغ الثياب والوجه. يخرجون من الحسينية أفواجاً أفواجاً، وحين يمتلئون لا يصبح معروفاً لون الدم، إن كان أحمر أو أسود. حزب الله ومناصروه، ومقلدو الإمام الخامنئي، إضافة إلى مريدي السيد محمد حسين فضل الله، لا يشاركون، بل يرفضون المشهد ويعدّونه حراماً، لكن لا حرام في النبطية. «القصة تقليد»، يجزم أحد المشاهدين الغاضبين. في القرى المجاورة مُنع الأمر وصار الجميع يأتي إلى النبطية، لذلك «تراهم يتخطون الألف واحد».
في الحادية عشرة، يشتد توالي الأفواج الزاحفة في ساحات النبطية وتنهال الأيدي على السيوف وتفتك الأمواس بفروات الرؤوس بلا توقف. تمتلأ الأرصفة بالأحمر القاني. عيونهم زائغة وأقدامهم مصقولة بالأرض. ترتج تحتهم ولا يبالون. يمشون كالجوعى إلى وليمة الدم. بينهم من يضحك لكن كان بإمكانهم الضحك في ظروف أفضل. يقول صاحب متجر، يبيع الخبز، إن أهل النبطية منذ وقت طويل يفضلون هذا الموت على غيره. موتُ مؤقت يواسون فيه أحزانهم. يموتون في الشمس مواساةً للأسلاف. النبطية مدينة الحسين، والرجل مقتنع بأن الحسين راضٍ بالتطبير. ورغم كل الدم يشتري ناس الخبز. يأكلون كأنهم معتادون التقليد، بل يبررونه بالأساطير. تتحدث فتاة عن «سيدة مقعدة جربت كل شيء ولم تمش إلا حين حزّت رأسها». ويذكره رجل آخر بأسطورة أخرى: «علي الذي قص رأسه». قص رأسه بفعل التطبير، لكن الجرح التأم سريعاً، بعد دقيقتين فقط.
لا أحد يمكنه أن يوقف تلك الأساطير. وبنظر سيدة أتت لمشاهدة المسرحية، ترتدي عباءة حسينية، هؤلاء المطبّرون «بتلك السيوف المتنوعة يبدون كجيش يزيد لا كجيش الحسين». تقول الحكاية إن الحسين كان مظلوماً، وإن جيشه كان قليلاً، لكنهم الأكثرية هنا، والرعب بحوزتهم لا بحوزة الآخرين: «جزّارون». «يبدون كالجزارين ويذبحون أنفسهم»، تمتعض السيدة المؤمنة. في المحصلة، ينتصر أصحاب السيوف على المشاهدين دائماً. تخفق قلوب الضعفاء لعرض القوة. حفظه الجميع وصار كتوزيع قطع الراحة والبسكويت على الجميع. يوزعون الكمامات التي تقي الرائحة أيضاً، و«البونجوس» لمنع العطش. كثيرون يمشون حفاةً وتحرق الشمس جميع أجزائهم.
فقدوا شعورهم بالألم. نسوه في مكان ما. ربما في ذاكرة لُقنوا إياها، أو في مستقبل يستعدون له بترويض الرعب. اختلت حواسهم ولا شك في ذلك، إذ إنهم لا يحدّقون في وجوه الآخرين ولا يسمعون بعد أن يفقد معظمهم تركيزه. يجزم مطبّر سابق بأن فرار هذا الدم يستتبعه تشوش في رأس فاقده. لهذا، تحصل الإغماءات تباعاً، عشرات الإغماءات. يمضون بقسوة. آخر يفعل ما بوسعه كي يمضي. لا يريد أن تسبقه البقية. يرتل بعض النداءات الدينية بصوت عذب يجذب انتباه الجميع. رغم كثرة الدم انتبه المتفرجون إلى الصوت الحزين الذي يقول «يا حسين يا شهيد، يا حسين يا غريب». الغريب هو أن هذا الشاب الغارق بدمه لا يبدو متديّناً، حاله حال كثير من المطبرين. شعره ناعمُ وطويل ويرتدي بنطلون جينز فيه من الفتحات ما يجعله على الموضة قطعاً، كما أن سالفيه عريضان كـ «سوالف» نجوم التلفزيون. بذلك الصوت العذب كان يمكنه أن يكون مغنياً بثياب أنيقة، لا جزاراً بسيف حاد وقميص أبيض لم تُبق الدماء منه شيئاً إلا الرقم عشرة، واسم «ديل بييرو». فقد كان الشاب يطبّر باسم اللاعب الإيطالي الشهير. ولا يمكنه ألا يطبّر «لأن الخواريف هم الذين يتفرجون ولا يشاركون». ينعت الشاب ذو الصوت الجميل الجمهور الذي أتى لأجله بالخواريف، لكنّ فتاةً من هؤلاء تردّ عليه: «يفعل ذلك لأجلنا، لا لأجل الإمام الحسين». شقراء، لا تبدو عليها أية مظاهر تدين، لكنها لا تخفي حبها لـ«عادات النبطية يوم العاشر ». لا تشعر بأنها خروف، بل متيقنة أن «الجغل» الذي يطبّر يقص رأسه لكي تراه وزميلاتها. تعتقد أنه لو أحب الإمام لواظب على الصلاة. وتعقب ضاحكة، كأنها لا تفضح سراً إذ تقول «ثلاثة أرباع المطبّرين لا يصلّون». إنها مجرد عادات، والناس في النبطية يضحكون في أعنف لحظات العنف.
ينضب الدم عصراً. يلتصق بالوجوه السكرانة، ويمكن الجزم بأن لونه يصير أسود حينها. تكتنزه الثياب البيضاء. ثياب بيضاء عمداً كي تتلقف المشهد. وتواسي الأرض الثياب، فتلم ما تلمه من بقايا الرؤوس المشطوبة. في طريق العودة إلى المنازل يدوس الجميع الدماء، وينسون أن يضعوا الورود في حديقة الشهداء.  

السابق
نحاس: جلسة الأمس فوتت على اللبنانيين امكان التوصل لتغطية صحية شاملة
التالي
نديم الجميل: الحكومة لن تستمر طويلا