إرث ليبيا من معمر القذافي

بنغازي – يتجول الشباب بإعياء خارج مكاتب المجلس الانتقالي الليبي وهم يحملون البنادق ويرسمون علامة النصر بأصابعهم أمام الزائرين. وفي الداخل كهول يرتدون سترات جلدية، يجلسون على أرائك ويتناولون الشاي، بينما يحاول المسؤولون المؤقتون التكيف مع تضارب المواعيد ويتحركون ذهابا وإيابا في الأروقة. يذكر هذا الوضع بمعهد سمولني، مقر لينين في سانت بطرسبرغ عام 1917، حيث الأشخاص المبتدئون المتحمسون غير المنظمين والذين يملأهم الخوف والإشاعات.
على الأقل كان الثوار الروس يعملون في مجتمع عامل له أساس. على العكس من ذلك، خلف الديكتاتور الليبي معمر القذافي فراغا غير مسبوق وغريبا بعد غيابه. يمكن القول إن ليبيا خلال حقبة ما بعد الثورة صحراء جرداء، ليس بالمعنى الجغرافي فحسب، بل بالمعنى السياسي والاقتصادي وحتى النفسي أيضا. ويمكن النظر إلى دول جوارها لمعرفة ذلك، فمصر لديها نظام اقتصادي متطور وطبقة متوسطة ومستثمرون أجانب ومجال سياحة ضخم، ناهيك عن التاريخ الطويل من المعاملات المالية مع باقي العالم. ولدى تونس سكان يتمتعون بقدر كبير من التعليم والثقافة، حيث اطلعوا لفترة طويلة على الإعلام الفرنسي، وتفاعلوا مع الأفكار السياسية. وأدلى أكثر من 90 في المائة من التونسيين بأصواتهم في أول انتخابات حرة تجرى في البلاد الأسبوع الماضي. وقد أقر مراقبون أجانب بنزاهة العملية الانتخابية.
 
على الجانب الآخر، ليس لدى ليبيا نظام اقتصادي متطور ولا سكان متعلمون ولا تجربة سياسية من أي نوع، حيث لم تكن هناك أي أحزاب سياسية حقيقية أو صورية يتحكم فيها النظام خلال فترة حكم القذافي. كذلك لم يكن هناك إعلام أو معلومات موثوق فيها. لقد كان الصحافيون الليبيون يتعرضون لأكبر قدر من التقييد مقارنة بأقرانهم من الصحافيين في العالم العربي. ولم يكن أحد تقريبا يتصل بشبكة الإنترنت، ولم تكن هناك صحافة استقصائية. كذلك دمر القذافي الجيش والمجتمع المدني والتعليم على مدى أربعين عاما قضاها في السلطة، ولم تعد البلاد تنتج شيئا سوى النفط الذي يبدو أن أرباحه لم تكن من نصيب أحد من أبناء الشعب. ويعمل نحو 60 في المائة من السكان كموظفين حكوميين، لكنهم يحصلون على رواتب متدنية تقدر ببضع مئات من الدولارات شهريا. ولا توجد بنية تحتية في ما عدا بعض الطرق، ولا توجد حياة اجتماعية تقريبا، لكثرة عدد الشباب الفقير الذي لا يقدر على تكاليف الزواج. ولم تكن هناك ساحات عامة للاستمتاع بحياة اجتماعية إن وجدت بالأساس. وكانت القمامة تملأ الشواطئ ذات الحالة المتدهورة، والحقائب البلاستيكية القديمة تنتشر في المتنزهات التي تكثر بها الحشائش.
الطبيعة تكره الفراغ، وبطبيعة الحال، في غياب جيش، قد تضطلع الميليشيا بهذا الدور، ففي الوقت الحالي قامت نحو 27 ميليشيا، من المدن المحيطة بطرابلس بالإقامة في معسكرات طرابلس، وطبعوا أسماءهم على حواجز الطرق. وفي غياب الهيئات التنظيمية، ربما تسقط الصحف الناشئة في أيدي الشركات والمجموعات السياسية التي ترتبط بصلات بالنظام القديم أو الأنظمة الأجنبية أيضا. وعندما التقينا بنائب رئيس المجلس الانتقالي عبد الحفيظ غوقة، ناقشنا سيناريو روسيا آخر، في أن تبدأ الصحف حماسية وحرة كما كانت في موسكو في التسعينات، لكن التكتلات التجارية قامت بشرائها بصورة تدريجية – حتى عادت في نهاية المطاف إلى سيطرة الحكومة. ونفس المصير يمكن أن ينتظر الأحزاب السياسية الجديدة.
بيد أن هذا الفراغ غير المسبوق في ليبيا يقدم في الوقت ذاته فرصا غير مسبوقة. فيشير أحد الصحافيين الليبيين – رئيس تحرير مجلة جديدة تتلقى تمويلا بصورة شخصية، وكل العاملين بها من المتطوعين – إلى أن جميع الصحافيين العاملين لديه لم يتعلموا الدعاية للنظام، ومن ثم فإنهم جميعا ملتزمون بقول «الحقيقة». من ناحية أخرى يؤكد الاقتصاد المعدوم وغياب المؤسسات أنه لا توجد أي مصالح مستحكمة تضع نفسها في مقابل التغيير، كما حدث في مصر. كما أنه لا يوجد أيضا أي إسلاميين منظمين تنظيما جيدا كما هو الحال في تونس.
يأتي على رأس كل هذا، امتلاك ليبيا أضخم احتياطي من النفط في أفريقيا، ونحو 250 مليار دولار كاحتياطيات من العملة الأجنبية. والغالبية العظمى من هذه الأموال التي لم ينفقها القذافي على شعبه لا تزال راقدة في المصرف. والحقيقة أنني لا أستطيع أن أذكر مجموعة أخرى من الثوار، في أي وقت في التاريخ، وجدوا أنفسهم في مثل هذا الوضع السعيد، فعادة ما تولد الثورات من رحم الإفلاس الوطني، وتكون المهمة الأولى للنظام الجديد ملء خزائن الدولة، والمهمة الثانية هدم مؤسسات النظام القديم. المهمة في ليبيا – كيفية إنفاق أموالها بحكمة، وكيفية بناء مؤسسات جديدة من الصفر – أسهل من أي ثورة أخرى وأكثر صعوبة في الوقت نفسه. لكن لا يمكنني أن أتوقع ما قد يحدث في ما بعد 

السابق
أجراس الإنذار بدأت تدق بقوة!
التالي
تخفيض جزء من ديون اليونان