روسيا تقدر المقاومة العاقلة

ماذا حققت زيارة وفد «حزب الله» إلى روسيا، وماذا بعد هذه الزيارة الاستثنائية الأولى من نوعها؟ مع الزيارة انفتح المدى الروسي أمام «حزب الله» كحزب سياسي لبناني مقاوم سبقته سمعته ورصيده السياسيان، وتبدت من خلال التوقيت والشكل والمضمون سلسلة رسائل روسية في اتجاهات مختلفة.

لعل من أهم نتائج تلك الزيارة هو ان لها ما بعدها من «خطوات ملموسة»، ومن موسكو اعلن رئيس الوفد النائب محمد رعد انها زيارة تأسيسية، ولم يبنِ كلامه هذا على رغبة «حزب الله» في تطوير العلاقة مع روسيا، أو محاولة نفخ الزيارة، بل على الحماسة التي اظهرها الروس سعيا ليس الى الانفتاح وفتح الأبواب أمام علاقة ظرفية او بروتوكولية متقطعة، بل لوضع آلية للتواصل الدائم وتبادل الآراء والافكار. والعلامة البارزة التي لها دلالاتها هنا، هي اناطة «حزب الله» بمسؤولية وضع تلك الآلية وتحديد اطرها ومفاصلها كما يراها. أما الباب الروسي، فمفتوح على التجاوب معها.

الزيارة ناجحة بمعيار «حزب الله»، فالروس لا ينظرون الى الحزب مثله مثل أي فصيل حزبي عادي، بل ينظرون اليه كحزب سياسي له موضعيته وموقعيته وشأنه ورمزيته وامتداده اللبناني والاقليمي والدولي، وكإحدى الركائز الاساسية للواقع اللبناني. وتجلت تلك النظرة في المحادثات التي اجراها وفد الحزب برئاسة النائب رعد وعضوية النائبين حسن فضل الله ونوار الساحلي ، سواء في الخارجية الروسية او في الدوما (مجلس النواب).
تناولت المحادثات، مجموعة عناوين: لبنان، سوريا، العراق، ليبيا، اليمن ، فلسطين. وقدم وفد «حزب الله» قراءته لهذا المشهد العربي، وقرنها بتقديم نبذة عن السيرة الذاتية للمقاومة في لبنان مصحوبة بتأكيد ضرورتها كأداة حماية للبنان واللبنانيين، «فالمعلوم ان اي جيش كلاسيكي، مهما تم تجهيزه بالسلاح، لن يستطيع ان يواجه جيشا مدججا بأحدث سلاح وتكنولوجيا غربية، ولذلك لا تمكن مقاومته الا بـ«حرب العصابات»، ونحن من خلال التجربة اكتشفنا ان هذه المعادلة الدفاعية هي التي تصلح في بلدنا، خاصة انه ممنوع على الجيش اللبناني ان يتسلح حتى بالحد الادنى من السلاح الدفاعي، وثمة مثال حي على هذا الامر، يتجلى في العرض الذي قدمته روسيا لتزويد لبنان بعشر طائرات «ميغ 29»، فهذا العرض تعطل اولا بسبب معارضة الاميركيين، وثانيا لان هذا السلاح مكلف للبنان، ما اضطره لاستبدال عرض «الميغ» بتدريبات وذخائر ومروحيات».

والأهم في السيرة الذاتية التي قدمها الوفد عن المقاومة «انها مقاومة عاقلة، لا مقاومة متهوّرة، او مقاومة للمقاومة او تحمل السلاح لغاية حمل السلاح.. ان المقاومة منذ ان تمكنت من تحرير الاراضي اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي في ايار الألفين، وحتى الآن، وبرغم وجود اراض لبنانية تحت الاحتلال الاسرائيلي وخاصة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، فإنها تعتمد استراتيجية واضحة: جاهزة ومستعدة ومتأهبة، لكنها مع وقف التنفيذ لانها مقاومة عاقلة تدرك الظروف التي تتحرّك فيها وتدرك مصالح بلدها وشعبها». 
اما المحكمة الدولية فقد لامستها المحادثات، لكن من دون الغوص فيها عميقا، وبدا جليا ان الموقف الروسي ملتزم بقرار مجلس الامن بانشاء المحكمة، برغم التحفظ الروسي عن مبدأ المحكمة في لحظة انشائها، وهو الأمر الذي عبر عنه الروس في حينه للمسؤولين اللبنانيين وترجموه امتناعا عن التصويت في مجلس الأمن.. وأكد الجانب الروسي رفضه تسييس المحكمة. لكن وفد «حزب الله» حدد موقفه الثابت والنهائي من هذه المحكمة، مؤكدا انها اداة من ادوات الاستخدام السياسي لابتزاز المقاومة، ولا تندرج في سياق التآمر على المقاومة في لبنان فحسب، بل على سوريا ايضا. ولفت الوفد النظر الى ان «حزب الله» تعاطى من البداية مع هذه المحكمة على قاعدة حسن النية والرهان على امكان تصحيح مسارها نحو الوصول الى الحقيقة وتحقيق العدالة، لكنها اثبتت العكس وثمة شواهد كثيرة. و«حزب الله»، بعدما ثبت تسييس المحكمة وتزويرها وتسلل اجهزة الاستخبارات اليها، قراره نهائي حيالها».

لقد افصحت المحادثات بين الجانبين ان للروس نظرتهم التقليدية حيال الوضع اللبناني بشكل عام، وعنوانها تأكيد الدعم الكلي للبنان وسيادته واستقلاله واستقراره، الا ان لهم اولويات متعددة واكثر اهمية بالنسبة اليهم في المنطقة، ومنها الملف العراقي ودورهم المفقود فيه كما مصالحهم، والملف اليمني الذي دخلوا على خطه مؤخرا، وايضا الملف الليبي الذي يشعرون بأنهم خُدعوا فيه، وان ليبيا قد خرجت من ايديهم على حين غرّة.
ويبدو ان الروس قرروا الا يُلدغوا من الجحر مرتين، لذلك تقع سوريا في رأس اولوياتهم، وثمة قرار روسي حاسم ونهائي بقطع الطريق في مجلس الامن الدولي على اي قرار له علاقة بفرض حصار دولي على سوريا، او بأي عمل عسكري من شأنه استهداف سوريا، فهذا الامر لن يوافق عليه الروس بأي شكل من الاشكال، فهم يحافظون على حلفائهم كما على مصالحهم.
ويدرك الروس ان «الفيتو» الذي رفعوه مؤخرا في مجلس الامن ازعج الغرب جدا، وثمة من حاول ممارسة ضغط على موسكو وخاصة من خلال محاولة إحراجها وإظهارها كأنها ضد حركة الشعوب التي تريد التغيير، وقد استاءت كثيرا من مبادرة البعض في إحدى الدول الخليجية إلى إحراق العلم الروسي. لكن الوضع في سوريا مختلف، فهناك مؤامرة على سوريا تستهدف إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد وليس إحداث إصلاحات، وقد استخدمت روسيا «الفيتو» لأنها مدركة أبعاد الهجمة على سوريا، ولا يجد الروس تفسيرا مقنعا لامتناع لبنان عن التصويت.

على ان الروس لا يبنون قناعتهم بوجود مؤامرة على سوريا، على تحليلات بل على معطيات يمتلكونها، وقد سمعوا ذلك مباشرة من الفرنسيين والبريطانيين الذين طلبوا ان تسير موسكو مع توجههم الرامي الى اسقاط الاسد على اعتبار انه سقط وانتهى من وجهة نظرهم. وقد واجهت موسكو الفرنسيين والبريطانيين بسؤال: كيف تريدون أن تسقطوا شرعية رئيس لنظام قائم، وفي الوقت نفسه تقولون إنكم تريدون إصلاحات وإجراء حوار مع المعارضة؟
من وجهة نظر الروس، فإن الوضع في سوريا أحسن مما كان، ووضع نظام الأسد أفضل حالا مما كان عليه، وبالتالي هم مطمئنون لمستقبل الوضع، خاصة ان الخطوات التي يقوم بها الرئيس الأسد تعزز الشعور بالاطمئنان لدى الروس، وخاصة قبوله مبدأ الحوار مع المعارضة السلمية، والروس هنا يرغبون في أن يقدم الأسد «جرعة زائدة» في اتجاه الإصلاحات والحوار «الشامل» إذا تيسّر، وما يزيد الاطمئنان الروسي أيضا هو الخطوات الأمنية التي ينفذها النظام في سوريا والقدرة التي أظهرها في الإمساك الميداني.

اما وجهة نظر «حزب الله»، فقد أكد أنه لا يقف ضد الاصلاح في أي بلد عربي، «لكن ثمة مؤامرة موصوفة ضد سوريا، فالرئيس بشار الاسد، عندما وصل الى الحكم في العام 2000، اطل على الشعب السوري برؤية اصلاحية. لكن فور تسلمه الحكم، واجهه اولا قانون محاسبة سوريا، ثم غزو العراق وبنود «الاستسلام والخضوع» التي قدمها كولن باول، ثم واجهه القرار 1559، ثم مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والاخراج من لبنان، ثم «حرب تموز» 2006، اذ لم يُترك له مجال للسير برؤيته الاصلاحية. اما الآن فتتم مواجهته بعناوين اصلاحية ويُتهم بأنه يتأخر او يماطل. ان الاسد يريد الاصلاح، وانتم في روسيا تعرفون بشار الاسد كما كنتم تعرفون والده الرئيس الراحل حافظ الاسد. إن هذا الرجل لا يمكن ان يقوم بأي خطوة اصلاحية الا وفق روزنامته ووفق متطلبات المصلحة السورية، وليس تحت الضغط الخارجي ووفق متطلبات الغرب». وجاءت وجهة نظر «حزب الله» مطابقة لوجهة النظر الروسية.  

السابق
تراكمات أمنية وسط التصدع الحكومي
التالي
لا للعنف ضد المرأة ينتقل من فايس بوك إلى الشارع