تمثال الحرية

تثور الشعوب من أجل حريتها. تحطّم المؤسسات القديمة بعد أن تنزع عنها القداسة. تزيل الأصنام والتماثيل. حين تبدأ بناء سلطتها الجديدة تعيد تكرار المشهد القديم فتحيط عملها التاريخي بشيء من التقديس وترفع الأصنام والتماثيل. هكذا تعود الدولة إلى شكلها القديم ولو أن المجتمع قد حصل على محتوى جديد.

ثارت البروتستنتية على الكاثوليكية وطقوسها وأيقوناتها وتجسيداتها ولم يمنع ذلك من أن تبني جدارية هائلة «لكالفن». قامت الثورة الاشتراكية على إعطاء الإنسان كل الطاقات والقدرات وعلى نبذ القداسة ثم جرى تحنيط لينين كأي رجل دين واتخذت المدن أسماء الزعماء وأحيطت الأفكار بالقداسة وكذلك السلطة. ليس في الإسلام كنيسة وليس في الإسلام مؤسسة وسيطة بين البشر والله فإذا بالإسلام السلطوي يقيم هذه المؤسسات ويعطي رجال الدين حق التأويل والتفسير وإضفاء القداسة على نتاج التفكير البشري. تتحوّل أفكار التغيير إلى سلطة قامعة. لا مكان في العالم حتى الآن يجسّد المعنى المطلق للحرية.

لا يشذ عن هذا المسار التاريخي الإسلام السياسي الذي هو ثقافة المسلمين بكل ما تراكم فيها من إرث بشري. ليست الأصولية بهذا المعنى عودة إلى الأصول والينابيع بمقدار ما هي محاولات لإلغاء التاريخ ومصادرته لنمط من التفكير ولمنطق في التفسير ولسلطة بشرية تدّعي أنها ستعيد المجتمع إلى فطرته الأولى. لكن هذه المحاولة تتم بواسطة مكتسبات البشر وتطوّرهم وتقنيات الحداثة ووسائلها فهي أشبه بالسعي إلى سجن الحرية والعقل في أدواتهما المعاصرة. هذا النموذج يكاد يستحيل تطبيقه في بلد متأخر كأفغانستان ولم تتوافر له أية مقوّمات مادية في أي بلد إسلامي آخر. أي دولة معاصرة تقوم تحت مظلة إيديولوجية تجعل منها حارساً على الضمير والعقل والحرية تبني مجتمعاً ينسخ الحداثة الرأسمالية في الاقتصاد ومشكلاتها ويستلهم المؤسسات الغربية السياسية دون أي مضمون فعلي آخر.  
قامت الإيديولوجيا في كل تجارب العالم على تكوين ما يشبه الدين الجديد. حين تتحوّل إلى مؤسسة سياسية تخلق امتيازات وحرمانات.
إذا كان المجتمع تعددياً تصير الإيديولوجيا اضطهاداً لكل ما لا يتفق معها. كل الأحزاب مارست هذا النوع من التمييز وهذا الشكل من الاضطهاد ولو بدرجات متفاوتة. إذا كان للديموقراطية من ميزة هي أنها لا تقفل الطريق نهائياً أمام التحوّل الممكن في تشكيل الأكثرية الحاكمة. تمارس الديموقراطية لعبة الإلغاء المؤقت والتواطؤ المقبول لهذا الإلغاء لكنها تؤكد على أن التمييز لا يطاول الحقوق السياسية والمدنية. تحتاج الديموقراطية إلى تأكيد المساواة السياسية وإلى ضمان الحقوق الأساسية الأولية للمواطنين وحرياتهم، ومع ذلك ما زالت موضع نقد لأنها لا تؤمن المساواة الاجتماعية فابتدع الفكر الحديث معادلة «الديموقراطية الاجتماعية» لتقريب المسافة بين الحرية والعدالة.
في الثورات العربية هناك مطلبان أساسيان هما الحرية والعدالة. الحرية ضد الاستبداد السياسي والحرية ضد التمييز بأشكاله المختلفة. أما العدالة فتتجه إلى كفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتكافؤ الفرص للجمهور في الترقي من خارج امتيازات السلطة. المفهوم الديموقراطي للسلطة أنها تفويض شعبي لإدارة المجتمع وليست امتيازاً لاستثمار المجتمع.

لا يفترض بأي سلطة أن تمتلك القدرة على إزالة حريات الناس أو إجبارهم على الانصياع لنمط من التفكير والسلوك المقولب في نمط فكري حتى لو كان يعبّر عن أكثرية شعبية. الدولة الديموقراطية هي إدارة للمجال العام الذي يتوافق عليه كل المواطنين الأفراد باعتباره مصلحتهم العامة. هذه الجدلية بين المصلحة العامة ومصلحة الأفراد هي عماد الدولة الحديثة.
من مقتضيات الحرية أن تكون للجماعات كما للأفراد الحقوق في التفكير والتعبير والممارسة والمنافسة بما في ذلك على السلطة. لكن ليس من حق هؤلاء أن يطبعوا الدولة بقوانين تلغي الحرية. وليس من حق الدولة أن تلتزم بقواعد تنطوي على تمييز مسبق بين الاتجاهات الفكرية والإيديولوجية أو بين الجماعات المشكّلة على هذا النحو هذه هي الدولة المدنية. يصبح الإسلام السياسي أزمة حين يصادر مسبقاً هوية الدولة ويريدها تجسيداً لهويته وسلطة في خدمة جماعة حزبية لأنه يفترض أنه يمثل أكثرية المجتمع المسلم.
لكن المجتمع المسلم ليس حزباً وليس صورة عن أي مشروع ثقافي أو سياسي. هكذا يصبح «التحزّب السياسي» استبداداً على جمهوره واستبداداً أكثر على ما يخالفه من الهوية والانتماء. من أجل ذلك لا تتوقف معركة الحرية عند حدود إزالة سلطة واستبدالها بسلطة، بل تظل الحرية معركة يجب الانتصار لها كل يوم في وجه كل سلطة سياسية وثقافة حصرية.  

السابق
مواطنة فخرية من بلدية الحنية لكتيبة ايطالية
التالي
تحطم 35 سيارة في حادث سير مروّع بدبي