رسالة قلقة الى رجب اردوغان

هل تُعبر التحولات التركية الاخيرة التي فرضها مناخ الانتفاضات العربية عن صعود ام افول في الدور التركي؟ المقصود هنا بوضوح دور اردوغان وحزبه لا "النموذج التركي" السابق على الحزب والمواكب له والباقي بعده؟

السيد رئيس الوزراء:

ارجو ان تصل رسالتي اليك بالشكل الوافي سواء عبر الاعلام او عبر سفارتكم في لبنان التي يقودها حاليا سفير كفؤ هو السيد اينان اوزيلديز والذي اعرفه منذ زمن طويل ايام كان سكرتيرا اول للسفارة في فترة من تسعينات القرن المنصرم… وايام كان الكلام فيه عن تركيا في بيروت "تابو" فعليا فكيف بالتواصل مع الديبلوماسيين الاتراك؟ بل كيف بالمساهمة عبر احدى المؤسسات البحثية الكبيرة في بيروت بتنظيم اول مؤتمر من نوعه يومها لِـ"الحوار العربي التركي" عام 1993؟
دعني قبل تحديد الملفات اقول لك انه منذ "البداية" كان الموضوع الاساسي لاهتمامي بتركيا هو كونها التجربة الوحيدة الواعدة في العالم الاسلامي المعاصر لامكانية نجاح علاقة الاسلام بالحداثة كنمط حياة وانتاج وسياسة، نقطة على السطر. لكنها نقطة على السطر الدهري.
عليَّ بسرعة خلافا لـ"الموضة" الرائجة مصارحتك ان هذا الرهان على "النموذج التركي" سابق على وصولك وحزبك للسلطة. انه كان ولا يزال رهانا على تراكم جهود ونجاحات اجيال من النخب التركية منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، وانت سيد اردوغان، مرحلة طليعية في دفع هذه النجاحات الى مستويات غير مسبوقة على صعيدي الدمقرطة والاقتصاد. حزبك، حزب العدالة والتنمية، هو نفسه سيكون مرحلة "عابرة" على طريق سعي الاتراك الى تكريس موقع فعال بين كبرى امم العصر الحديث وهو امر فشل العرب – اي مصر الملكية الليبرالية والعسكرية القومية تحديدا – في انجازه. مرحلة الى ان يصل جيل ومنهاج يقودان حقبة لاحقة من المسار التركي.
أتابع منذ العام 1991 في جريدة "السفير" ثم في "النهار" الشؤون التركية، ولا اخفيك انها المرة الاولى خلال عشرين عاما التي اجد فيها هذا القدر من الصعوبة ليس في فهم التحول التركي وانما في تفسيره! واعتقد هنا انه يجوز التمييز بين الفهم والتفسير! لكن ما هو صعوبة الصعوبات اي الصعوبة – الذروة هو استشعار او رصد ما اذا كان "الانقلاب" الكبير الذي قمت به، بمعزل عن مبرراته، هو علامة في سياق صعود جديد لـ"حزب العدالة والتنمية" وبالتالي لتركيا ام علامة بدء تراجع دور الحزب بل افوله؟ وهذا مستوى من الرصد علمتني تجارب معلقين كبار في الصحافة العالمية والعربية يجب ان لا يغيب عن تفكير المراقب مهما كانت الاحداث الآنية التي يتابعها غزيرة؟

اذن السؤال الكبير ولو بدا سابقا لأوانه بالنسبة لكثيرين في عالمنا العربي- وازعم انه ليس كذلك – هل تعبر التحولات التركية الاخيرة التي فرضها مناخ الانتفاضات العربية عن صعود ام افول في الدور والقدرة السياسيين؟ واعني بوضوح هنا دور قيادتك وحزبك لا "النموذج التركي" بالمعنى التحديثي الاشمل. هذا التوضيح ضروري للتمايز عن تقليد سياسي رديء في لبنان والعالم العربي يقوم على التبجيل المطلق في حالة التوافق والتحقير المطلق في حالة الاختلاف. واذا كانت الدول والحكومات تفعل ذلك عادة حين يصبح الصراع ضاريا بينها فالمشكلة تطرح نفسها حين يتعلق الامر بجزء من النخب الفكرية والاكاديمية ولن اتحدث عن بعض السياسية والاعلامية بعدما انفتح سوق جديد بل اسواق للاستقطاب المالي – السياسي.
ايا تكن نتائج الحسابات السياسية والامنية التي انتهجتها تركيا تحت قيادتك الفاعلة في الاشهر العشرة المنصرمة، وقد يكون بعضها ناجحا وبعضها الآخر فاشلا بسبب تعدد الاحداث في الساحات العربية، الا ان لها سمتين او على الاقل تعطي انطباعين:
الانطباع الاول انها اتخذت بقرارات سريعة في عدد من دوائر "الربيع العربي" وهذا ما تعترف به انت وكبار معاونيك. 
الانطباع الثاني ان بعض الاندفاع الى الامام يعبر عن ارتباك ضمني.
هذه هي المرة الاولى اذن التي تبدو فيها سياسة "حزب العدالة والتنمية" منذ نجاحه الاول في الانتخابات عام 2002 الى نجاحه الثالث الاخير، بدون "نظرية" جيوبوليتيكية واضحة غير تلك الفكرة النبيلة العامة عن "الالتحاق بخيارات الشعوب العربية ضد انظمتها الاستبدادية". لكن هذا الشعار على فعاليته لا يكفي كما تعرف كرجل دولة لتغيير كامل في الاستراتيجية الجيوبوليتيكية السابقة والمكتوبة. هذا يعني ان الاسم الحقيقي لما باتت تفعله تركيا تحت قيادتك هو مغامرة كبرى غير مضمونة النتائج السياسية والامنية والاقتصادية على المدى الاقرب وحتى المتوسط.

من طبيعة احزاب التغيير كحزبك الدخول في مغامرات شرط ان تعترف انها مغامرات. ولكي اكون دقيقا بما يليق بمخاطبتي لرجل دولة في مقامك، يجب التسجيل ان العنصر الاستراتيجي الأهم وربما الوحيد الذي انطلقت مغامرتك العربية الكبرى هذه بالاستناد الملموس اليه هو اتفاق حصل بين قيادتك وادارة الرئيس اوباما على خوض هذا التحول معا بالاستناد الى ما يُفترض ان يكون تفاهما على مصالح تركيا في الوضع الجديد لتوزيع المصالح السياسية والاهم الاقتصادية. وهذا اتفاق لا شك انه ضروري بالحد الادنى في ظل عدم اطمئنانك للدور الفرنسي ليس فقط في ليبيا بل حتى في سوريا كما تجاه بريطانيا التي تحمل الطبقة السياسية التركية التقليدية والجديدة هواجس سلبية كثيرة اصلا حول مخططاتها الكردية داخل تركيا.
هذا الاتفاق المستجد مع الولايات المتحدة بدأت نواته على الارجح بعد المواجهة التي حصلت في مجلس الامن قبل الانتفاضات العربية عندما صوتت تركيا الى جانب البرازيل برفض مشروع العقوبات على ايران. فورا بعدها لاحظنا ما يمكن ان يكون الاستدراج الاسرائيلي لتركيا الذي ادى الى الاعتداء على السفينة التركية وبحارتها. للرد على هذا الاستدراج يبدو انك اخترت ببراغماتية ذكية ان "تتعهد" لواشنطن بسحب يدك نهائيا من الملف النووي الايراني والانخراط في التحالف الاميركي الاوروبي الضاغط لمنع حصول ايران على قنبلة نووية، والتخلي عن اي طموح للعب دور وسيط في ملف ظهر سريعا انه يتجاوز امكانات تركيا كدولة اقليمية كبيرة ولو صاعدة مقابل احتفاظ تركيا بحكم وزنها بكامل علاقاتها الاخرى الضخمة والتاريخية مع ايران، كما احتفاظ تركيا بهامش مواجهتها الديبلوماسية مع اسرائيل.

هذا حصل قبل بدء "الربيع العربي" ولكن معادلته تكرست ضمن الانقلاب الاقليمي التركي الجديد، مع الموافقة التركية اللاحقة على نشر رادار الناتو للانذار المبكر على اراضيها كنوع من التأكيد على الانضباط التركي في هذا الملف النووي تحديدا. لكن الموافقة على الرادار اثارته مخاوف دولة اكبر من ايران ولها علاقات اقتصادية ضخمة مع تركيا هي روسيا التي وان كان لازال لها نفوذها الدولي العالمي الا انها قررت كدولة اصبحت اقليمية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ان تحمي مجالها الاقليمي بعدما استفحلت التطاولات الاميركية على هذا المجال فبدأت بتأديب جورجيا قبل سنوات قليلة. وهي استراتيجية في الامن الروسي الاقليمي اكتشفنا انها بلغت مداها الاقصى باعتبار سوريا داخله او قريبة منه كما كشف التصويت بالفيتو في مجلس الامن قبل فترة. تصويت الى جانب الصين القلقة من سوابق تحريك الغرب لـ"الربيع الصيني" في التسعينات كما الخائفة من المد التركي في آسيا الوسطى ذات العالم التركي كما هي روسيا القلقة من هذا المد في القوقاز (الذي يبعد عن القامشلي السورية اقل من ثلاثماية كيلومتر وعن حلب مسافة اقل مما تبعد حلب عن اسطنبول).
تأتي مغامرتك بعد انطلاق "الربيع العربي" لتتكيف وتقطف وتثير.
تتكيف مع حالة عربية منحتها الثورة المصرية بعد تونس ليس فقط المصداقية وانما ايضا قوة التحول المستقبلي على الرغم من كل المشاكل الجادة التي تواجهها مصر والتي لا ضير هنا من تبني نظرية المؤامرة في تفسير بعضها بحيث يجب البحث عن هذه المؤامرة، التي لن تكشفها ويكيليكس، في خانة حلف جهنمي متضرر من احتمالات الدور المصري ويضم بعض اعداء مصر وبعض "اصدقائها" ولعل الفئة الاخيرة أخطر!
لقد ظهر بوضوح ان نمطا بل كل انماط السلطوية العربية لم تعد صالحة للاستمرار… يدعم ذلك النظام العالمي باشكال مباشرة مختلفة. وعلى المستوى السياسي بدت هذه الموجة باعتبارها عمليا "لحظة" حركات "الاخوان المسلمين" للدخول بل لقيادة الحكومات العربية. كل تلك العناصر المحلية في الاجتماع السياسي العربي الجديد والاقليمية والدولية تجعلك تعتقد ان باستطاعتها ان تكون ايضا "اللحظة التركية" ولو ببعض الاثمان الاقتصادية في المرحلة الاولى. وهكذا تم انتقالك السريع من استراتيجية "صفر مشاكل" التي هي استراتيجية صداقة مع ديكتاتوريات المنطقة غير الملكية الى استراتيجية مختلفة تماما في خلال اقل من شهرين. هذان هما منطقا التكيف و"القطف". لكن غير المحسوب ظهر في عنصر الاثارة وتحديدا في سوريا. 

السابق
اليونيفيل ترحا إما باعتداء جديد أو حرب بين الحزب وإسرائيل
التالي
تمويل المحكمة أو عدمه قرار إقليمي