كآبة المستقبل

ينتظر كثيرون جنوح السفينة السورية إلى هذه الناحية أو تلك، أو عصف رياح بأشرعتها كما تشتهي أهواء هذا الطرف أو ذاك، وربما أهمهم تيار المستقبل، الذي لم يعد لديه الكثير ليفعله، إلا تصريف الأعمال وإدارة التفليسة، وانتظار دور يعطى له من الخارج. ليس لدى التيار ما يشغله، ولا لقائده ما يهمه في بلاد الأرز، وليس مرد الفراغ والكآبة هزيمة سياسية تعرض لها التيار، بل ربما هو المزاج السيّئ للوريث النزق، أكثر منه التعب من كثرة التعرض للضربات في لبنان، ومآزقه المالية التي لا تنتهي، أكثر مما هو التراجع في مشروع الدفاع السعودي المقدس في وجه المد الإيراني الفارسي.

كانت الضربة الحقيقية للتيار هي افتقاده قائده وليد جنبلاط، الذي سئم من انتظار بعض العقلانية في تصرفات سعد الحريري، ومن حوله شلة الأنس والشورى. وبعد العبث الذي بلغ حد الانتحار، تخلى جنبلاط عن التيار وسعد وقوى 14 اذار الى حين، وغرقت هذه في أحاديث أحمد فتفت وابتسامات عمار حوري، ومواقف خالد الضاهر وجاذبية محمد رحال، وفكر عقاب صقر. وكان لا بد بعدها أن تصل الأمور الى ما هو أكثر من الفشل. ورغم صب الشارع أصواته الى جانب تيار المستقبل دون منازع فعلي، فإن المستقبل اكتسب إحدى خصال قوى الثامن من آذار: قدرة عالية على تحويل الانتصارات الميدانية الى خسائر سياسية.

ترك سعد الحريري خلفه أيتاماً، تياراً مصاباً بالكآبة، ولا يزال يعاني عقدة المد الفارسي والعداء للشيعة، وفوقهما هو مصاب بقلق عصابي من المستقبل نفسه، ومن اليوم الذي ستنهار فيه المؤوسسات التي توقفت عن دفع الرواتب لموظفيها. 
أصبحت الهواجس العصابية تتكاثر، وواحدها يجر الآخر، وإن كان مفترضاً بحسب دعاية فريق المستقبل وملحقاته أن الثورات العربية تمثل متابعة للمسيرة المظفرة لثورة الأرز، إلا أن النتائج النفسية تأتي عكس هذه الدعاية، فها هو التيار يكاد يتفكك، ويقاتل للبقاء باللحم الحي. وفؤاد السنيورة، الذي كان رئيس كتلة التيار الى يوم قريب، ينهش في ممتلكات العائلة الحريرية المالكة، ولم يعد البعض يتمالك نفسه عن الكلام، فيقول ما يبطن في مجالس خاصة، ويتردد كلام سريع (وإن كان بحاجة الى الكثير من النقاش والتعليل) عن تخلي المملكة عن أحادية التمثيل السني في لبنان، وتخليها أيضاً عن سعد الحريري سياسياً، لكن الأكيد أن الأزمة المالية للحريريين بلغت حداً يثير كل يوم المزيد من اليأس في نفوس من هم حولهم، وصارت تتراكم وتتركب أكثر فأكثر.
وحلت المملكة منذ أسابيع قليلة المشاكل المالية الفعلية لسعد الحريري، وينتظر أن تبدأ انعكاساتها الإيجابية في لبنان قريباً جداً، إلا أن ذلك لا يبدو كافياً لإعادة تنشيط جدول أعمال سياسي لدى هذا التيار.

الحالة النفسية للتيار صارت تعلن عوارضها، تشنجات هنا وهناك، تصرفات غير مسؤولة، تصريف سلاح وذخائر في بعض الأحيان الى سوريا، تمنيات تشير الى عته مستحكم، ولا مبالاة عامة، حتى إن مذكرات التوقيف الدولية استقبلتها وسائل إعلام قوى الأكثرية النيابية بأحسن مما استقبلها تيار المستقبل، ولم يخرج سعد الحريري ليتحدث يومها، بل أصدر بياناً مكتوباً، ولو كان الشيخ أسامة بن لادن أو أيمن الظواهري مكانه أو هو مكانهما لما جرى تفويت مناسبة مشابهة دون تسجيل فيديو، ثم عاد سعد ليفوت أيضاً فرصة القرار الاتهامي، وكذلك فعلت وسائل إعلامه التي تصرف الأعمال تصريفاً حزيناً.

ثم خرج الحريري في مقابلة متلفزة يتيمة، ليؤكد كم أصبح خطابه السياسي باهتاً ومكرراً، على الرغم من التحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة، والحد الفاصل الذي يعيشه البلد، فكانت كلمات سمير جعجع أطول عمراً من مواقف سعد الحريري المتلفزة.
لم يعد الأمر يحتمل الانتظار أكثر، من المؤسف أن نجيب ميقاتي لا يطمح الى بناء تيار سياسي، وإلا لكان أحد الأدوية العلاجية لكآبة المستقبل، إذ ربما هو من القلة القادرين على استيعاب ردات فعل المستقبليين المتشنجة، وتخفيف حدة العقدة السنية الشيعية، رغم أن العلاج الفعلي قد يتطلب تدخلاً من الهيئة الصحية لحزب الله، وإخضاع المريض للصدمات، فهو شيخ وعلاجه يجب أن يشارك فيه مشايخ، وهو يرغب في توريط حزب الله في المحاكم، وخير أساليب حل النزاعات هو التفاهم المباشر. ثم إن عليه أن يواجه مخاوفه من الشيعة عبر الجلوس معهم، أما الحزن على فقدان رئاسة الحكومة، فعليه أن يتعايش معه. والتغييرات في سوريا لن تضمن مصالحه حتماً. 

السابق
عن رحلتي في بلاد الأميركان (2): أنا الجنوبية صدّقت الحرية… لكن ماذا عن إسرائيل؟
التالي
مقبرة غامضة في هضبة باميرس