عن رحلتي في بلاد الأميركان (2): أنا الجنوبية صدّقت الحرية… لكن ماذا عن إسرائيل؟

غريبة هي التناقضات التي قد تحملها زيارة فتاة جنوبية إلى أراضي أميركا، أي ما اصطلح على تسميتها عند الجنوبيين، الشيعة تحديدا: "الشيطان الاكبر". فمنذ نعومة أظفارها وهذه الفتاة، كما غيرها ممن ينتمون وتنتمين إلى البيئة نفسها، تطلق العنان أمام أفكارها لترسم ما يمكن رسمه من الصوّر عن ذاك الشيطان الذي يسيطر على العالم، ويدس سمّه أينما وجد… وكل ذلك وفقاً لما يدور حولها من أقاويل وقصص نسجت لتجعل من صورة أقوى دولة في العالم سوداوية وخطيرة في نظرها.

فتاة جنوبية في أميركا، تنتظر أن ترى ما اختزنه دماغها من قصص عن السيطرة على القرارات الدولية والتحكم بالدول العربية، وعن "الديمقراطية الكاذبة" و"الحرية المزيفة"، و"الفلتان" الأخلاقي والإنحلال الجنسي ربما، في صفوف الشعب، وعن "الدولة العدو" بشكل عام… وعشرات الصوّر التي اصطدمت بالواقع الملموس ما إن وطأت قدماها على أرض مطار العاصمة واشنطن، قالبة بذلك كل شيء رأساً على عقب.

فالصوّر القديمة الراسخة عن الشيطان الأكبر باتت غير واقعية وصحيحة في نظرها. حيث أنّ الحرية والديمقراطية التي تنادي بها الولايات المتحدة الاميركية وتفرضها على العالم أجمع ليست أكاذيب. قد تكون حرية مضافا إليها بعض التلاوين والمبالغة، إلاّ أنها موجودة وحقيقة معاشة في كل الولايات التي زارتها تلك الفتاة، فالفرد أو المواطن على اختلاف تنوعه الإثني والطائفي والمناطقي… حرّ، يفعل ما يريد ويعترض على القرارات الحكومية وينظم الاعتصامات والتظاهرات للتعبير عن رفضه وامتعاضه، كذلك يعمل ما يحلو له وعلى الجميع ان يحترم عمله ومكانته ومركزه الاجتماعي، إن كان وزيراً، طبيباً، نادلاً، أم متسولاً ومتشردا… الجميع سواسية ولهم الحق والحرية للتعبير بوضوح عما يخالجهم من أفكار وأفعال دون أي خوف من أن يسجنوا أو يضربوا ويهانوا، لأنّ كلّا منهم يعلم مسبقاً أن ما أطلقه من أفكار سوف يتحمّل مسؤوليته لاحقاً.  

حقيقة أخرى تبدلت على ارض الواقع وهي متعلقة بالشعب وليس بالدولة الأميركية كقوّة خارجية. ففكرة اكتناز الشعب الاميركي عداء مبيّتا اتجاه العرب ليست دقيقة. ذلك أنّ معظم الأميركيين لا يعرفون شيئا عن العرب ولا يكترثون لمجريات الامور الخارجية بشكل عام، وبالتحديد في المناطق العربية. فهم لا يعلمون أين يقع لبنان على الخريطة، أو أين هو موقع الدولة السورية، أو أي دولة على الخارطة العربية، وهم لا يولون أهمية للحكومات العربية وأزماتها الاقتصادية والسياسية والفقر والموضة… وبقية الامور التي نلهث لمتابعتها، نحن العرب، عن الأميركيين، ونرغب في معرفتها عن أقرب ما يتحصّل.
                                                                                                    
 
الأميركيون مختلفون عنا في هذه الناحية، فالإعلام الاميركي نجح في إبعاد هذه الضوضاء عن مسامع المواطنين من خلال إبقائهم بعيدين كل البعد عن السياسة الخارجية للدولة، وتحويل اهتمامهم نحو مسائل بسيطة تذيعها القنوات التلفزيونية وتنشرها الصحف المحلية بشكل يومي، وهي غالباً ما تكون عن اوضاع الولايات، والفنانين ونشاطاتهم، مع القليل من التصاريح السياسية حول المواضيع التنموية التي تهم مواطنيهم كرفع الاجور وحق المرأة في الاجهاض او رفضه، البطالة وغيرها من التفاصيل الإجتماعية الدقيقة.

هذا الواقع يشكل مفاجأة لأي شاب في الوطن العربي، فكيف باللبناني الذي تعوّد منذ صغره على متابعة تصاريح الكذب من الرؤساء أو الملوك والنواب والوزراء، لمعرفة الاوضاع المحلية والاقليمية والعالمية السائدة والوقوف عند متغيرات المنطقة والازمة الاقتصادية العالمية ومشكلة النفط والامن وغيرها من المواضيع التي ترهق أفكارهم وتعيق تقدمهم.. وخصوصا من جنوبية تربط مآسيها دائما، في عقلها الباطني ربما، بالأميركيين…

في تلك البلاد الشعب لا يكترث "الناخبون" بالسياسة إلا خلال فترة الانتخابات، لمحاسبة الجميع، من الرئيس إلى النواب، مفضلين الاستمتاع في الحدائق العامة والمنتزهات، الملاهي الليلية، الرقص، الغناء… باختصار وسائل التسلية واللهو فقط هي الهموم الأساسية.

                                                                                                                                               

القصص القديمة الكثيرة عن اميركا والاميركيين وما زال هناك الكثير منها. فلم يغب عن الفتاة الجنوبية أنّ تخطيط السياسة الخارجية الأميركية واضح للتلاعب بالدول العربية للوصول أولا إلى النفط، نظراً لمناخ "أميركا" الغريب. فولاية ميسيسيبي على سبيل المثال لا يمكن لمواطنيها البقاء ولو لثانية واحدة بلا تكييف تسخيني. أما الخطة الاولى والاساس فتكمن في حماية الوجود الاسرائيلي، عبر تعميم فكرة "دولة اسرائيل التي يحاول الفلسطينيون الاستيلاء عليها".

وعرفت الفتاة من هناك معنى سياسة قلب الواقع وتحويل أنظار الرأي العام العالمي للوقوف بجانب اسرائيل "في وجه الاعداء الذين ينكلون بها ويهددون وجودها وهم بشكل أساسي حزب الله وحماس".

وهنا تترسخ فكرة العداء للسياسة الاميركية الداعمة وبقوة لعدو العرب عبر سياسة الاخبار الانتقائية والتحريضية المعتمدة، في الإعلام الأميركي كلّه من دون استثناءات تذكر، والتي تهدد وجود هذه الفتاة وغيرها من الجنوبيين الذين يدركون وبشكل تفصيلي ماذا تعني إسرائيل، وكيف كانت تتعامل معهم، وهم مقتنعون بأنها قادرة على مهاجمتهم وقتلهم في أي لحظة والطريقة الوحيدة للدفاع عن انفسهم هي المقاومة المتمثلة بحزب الله "الارهابي" بالنسبة للسياسيين والمواطنين الاميركيين.

يتبع 

السابق
هل المطلوب أغبياء لتصديق الكذبة الاميركية الجديدة !!؟
التالي
كآبة المستقبل