عالَــــمٌ زال… لو عاد جلقامش

 الإنسان هو الذي يرفض التغلّب على الموت… لقد نسب هذه اللعنة إلى الآلهة ليتنصّل من أفظع فضائحه ويحتفظ بدور الضحيّة.
لنرجع:
جلقامش يضيّع عشبة الخلود لأتفه الأسباب، بعدما قَهَر المستحيلات ليصل إليها. هِرَقْل يسحق أعتى الوحوش وينقذ أصدقاء له من الجحيم وينتصر في أضرس الحروب ويطهّر البشريّة من الآفات ويكتسب الخلود، ثم يتدحرج إلى العطب والموت بسبب العشق وغيره ممّا لم يكن في قَدْر سمْعته.
آدم ولد خالداً وأصابه هوى حوّاء بالموت.
لم نعرف لماذا لم يَخْلد نوح مع أن الأرض أخذت أكبر حمّام في التاريخ وكان هو الوارث الأوحد للخليقة الجديدة. كان مفترضاً، بعدما وقع عليه اختيار الخلاص، أن يدوم كالآلهة. فالخطيئة هي الموت والموت عقاب على الخطيئة، والأرض اغتسلت، فلمَ العودة إلى الموت؟
هل المعاقبة إدمانٌ إلهيّ؟
ينسب العديد من المعتقدات دخول الموت في الحياة، إلى المرأة، تارةً لأنّها ضعفت أمام التجربة فاجتازت الباب الممنوع وطوراً لأنّها، بتركيبتها الفيزيولوجيّة، تشبه أقرب الحدود الفاصلة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة.
وهذا بدوره تجنٍّ، فلمَ نُصوّر هذه الحدود بوابّة على الموت ولا نراها بوابةً على سرّ آخر من أسرار الوجود؟ ولماذا تكون المرأة قناعاً للموت، وعند بعض الأقدمين الموت امرأة، وما فعلت المرأة، بعد الإلهام والإغراء، إلّا الخَلْق؟ هل يُرْمَزُ بها إلى الموت لأنّ الرجل يفقد عندها قواه؟ وهل قواه إلّا عليّ وعلى أعدائي؟ وهل هو قويّاً أفضل منه ضعيفاً؟ وهل قوّته، في أوج سلطانها، سوى غزوٍ وحرب واحتلال ومجازر؟ أمّا الآخرون، أقوياء الرحمة والخير، وأقوياء الفنون والجمالات، فهؤلاء ليسوا نسيج جنسٍ واحد، بل فيهم الجنسان متدافقان، وأجناسٌ أخرى غامضة، ربّما الملائكة والرياح ولحظات تبدُّل الفصول الكونيّة، وبينها ما هو أبعد وأكثر. مولّدو الجمال هؤلاء، هم والأطفال والحسناوات، وكذلك الحيوانات البريئة الطيّبة، والينابيع والهواء، وخواطر الفَرَح والشوق، هم (هُم، طبعاً) في موضعٍ تكرهه البشاعة، لأنّ البشاعة لا تصل إليهم.
وأجمل من مبتدعي الجمال، متلقّوه… المتعطشون إلى استهلاك الجمال والطواف حوله، أصحاب الفراغ الرائع الذي لا ينتهي. جوعهم إلى الجمال هو المناخ الأوّلي لتكوُّن شروط خلق الجمال. إنّهم آباؤه غير المنظورين.
اخترع الإنسان كلّ شيء… لنفسه اخترعه، وهو يحسب أن الشرّ الذي يخترع سيقتصر على أعدائه وأنّ الخير له وحده.
لو عاد جلقامش ليبحث عن عشبة الخلود له ولغيره، لوجدها ولما ضيّعها هذه المرّة.

■ نور مرعب

ينتحر شاب قهراً. انتحَرَ أم انتُحِر؟ ولماذا؟ من الظلم؟ اليأس؟ سوء الفهم؟ لا نَقُل: هو اختار، فليصطفل. لا نَقُل: الانتحار هروب، كان عليه مجابهة ظُلّامه. في أقوالٍ كهذه تمثيلٌ بروح الضحيّة.
نور مرعب كان ناشطاً سياسيّاً، والناشط السياسي لا يقتل نفسه استعراضاً ولا تجريباً، بل هناك دوماً ما يقتله، أو مَن يدفعه للانتحار، خاصّة إذا كان صادقاً ونهائيّاً.
لقد استُهتِرَ برحيل هذا الشاب استهتاراً يضيف فجوةً إلى فجوات الإعلام.
حتّى الموت «الطبيعي» ليس وحده ما يُميت صاحبه، وراءه يقف قاتلٌ ما، فكيف بمأساةٍ كهذه لم يبق دافع إلّا دَخَلها؟ (للاستزادة حول الموضوع العودة إلى مدوّنة خضر سلامة ومطالعة مقاله المؤثّر عن صديقه).

■ غطاءٌ لغدر

يصيب الكائنَ الحبيب حادثُ انزلاقٍ يُنزل بظهره وصدره وجعاً لا يطاق. أشدّ ما يصدمك في حالةٍ كهذه أنّك لا تستطيع أن تفدي الكائن الحبيب. تتمنّى لو يكون شفاؤه فوراً على يد روحك التي تعطيه إيّاها.
لدقائق، كان هذا المرتعد على محبوبه يظنّ نفسه حصيناً لا يبالي. لحظة، ويكتشف أن أكثر مَن يحبّه وقع فجأةً في الألم وأنّه، هو، أعجز مخلوقٍ وضعه الله أمام وجع الحبيب.
لا يبقى شيء. لحظة وترى أن في ثنايا الحياة الطبيعيّة التي كانت تستمرّ، تختبئ قوّة تحضّر كميناً، وعجزاً أمام الكمين.
الحياة المطمئنّة غطاءٌ لغَدْر.

■ زوال عالم

عودة إلى مطالعات في أبو شبكة، أمين نخلة، فؤاد سليمان… أمّا الرحبانيّان فلا أنقطع عن سماعهما.
لا تُحَبّ القرية اللبنانيّة كما تُحَبُّ عند هؤلاء. الجبل في «موسم العزّ» و«جسر القمر» و«حكاية الإسوارة» أجملُ من الحبيب، ألصقُ بالقلب من الأبوين.
تصعب قراءة «درب القمر» بدون غصّة. رَفَعَ فؤاد سليمان حكاية القرية اللبنانيّة إلى رتبة القدّاس الإلهي. زنّرها بحنينٍ ميتافيزيكي كأنها هي الفردوس المفقود والمهاجر منها، سواء إلى المدينة أو إلى أميركا وأفريقيا، منفيٌّ إلى الجحيم. ولَعََنَ البحر الذي يغرّب أبناء القرى كما لم يلعن أيّوب الساعة التي وُلد فيها.
أمين نخلة تُقرأ مفكّرته الريفيّة كما تُرْشَف كأسٌ لخمرٍ لم يعد له وجود. ذَهَبٌ على ثلج وثلجٌ على ذهب، أكداس خضرةٍ وزهر ومُشهّيات تُريك الباروك مرتعاً للسعادة وفلذةً من الخُلْد.
الياس أبو شبكة ناح على البَرَكة القرويّة من ثلثي القرن، يوم كانت القرية لا تزال في عزّها، فما تُراه كان سيكتب لو عاد ورآها اليوم، وكيف اختفت منها المسافات وتراكم البناء العشوائي الفظيع بعضه فوق بعض ولم يعد لاسم القرية مبرّر؟
لا تحسبوا كلامهم مبالغة. «شعر»، كما تقولون استهزاءً. هو شعر، لله الحمد، وفي الوقت نفسه صورةٌ طبق الأصل. بل أقلّ من الأصل. كان الداخل إلى قرانا كإنسان الخليقة الأولى الملقى فجأة في أحضان الحلم. كلّ شيء بكْر، والدنيا مهداة. الجدول، العين، الجلّ، دار الكنيسة، الحارة التحتا، الساحة، الدكّان، الملحمة، وادي الصنوبر، أعالي السنديان، ألْفةُ الماعز والنعاج والعصافير، حيّات البِرَك غير السامّة، التين والعنب، المعصرة، الطاحون، الطيّون، البنات…
والأعياد، والسهرات، والأغاني، والدبكة، وحلقات العشق التي لا يظهر فيها من عشق العشّاق إلّا نظراتهم وأطروحاتها.
لم يكن الشرّ قد قدّم أوراق اعتماده. والضجيج الملوّث لم يكن قد عرف طريقه إلى القرية. كانت القرية ظِلّ السماء على الأرض.
حتّى الناس كان إذا مضت أيّام ولم يستحمّوا تفوح منهم رائحة أقرب إلى القمح، أو إلى التراب المرشوش بالماء عند الغروب. عَرَقهم كان مزيجاً من هواء نقّي وماءٍ نقيّ وغذاءٍ نقيّ ونوايا نقيّة. كأن الدنيا، في الجبل، كانت خارجةً لتوّها من يَدَي الخالق لم تفارق بعد دهشتها.
أذكر الآن تلك الأيّام، أيّام العطلة المدرسيّة في الصيف، فأراني كنت في إجازةٍ إلى عالمٍ زال. كنت في حلمٍ أشقر لكلّ حجرٍ فيه تاريخ ورمز. كان بين البيت والبيت جِلالٌ وبساتين، ودروبٌ ومنعطفات ظليلة. كانت الرياح لا تَهبّ لتتمرجل بل لتأخذ دورها في التنزّه فوق السطوح. وكان قلب كلّ واحدٍ من أهل الضيعة معلّقاً بسقف بيته يضيء محبّةً أكثر من القنديل ويَرْشَح رضىً يطيل
العمر.
كان النزول إلى بيروت نوعاً من سفر برلك. النزول من دفء الحماية إلى غابة الحديد واللهاث والغربة. قضّينا العمر نحاول أن نصبح بيارتة حتّى أصبحنا. عندئذٍ تطلّعنا فرأينا أنّنا أضعنا لبنان.
سماعُ الرحبانيّين وفيروز ومطالعة أدباء الريف الهيمانين بقراهم واجبٌ على كلّ مَن يهوى تعذيب النفس: سيرى ماذا خسرنا. سيرى كيف كانت ستكون حياتنا صغاراً وكباراً لو لم نخسر تلك الجنّات. تلك الحاميات. تلك البقايا من مركب الأرض الأولى.
كانت بيروت لبشاعة هندستها تستحقّ الهدم في الحرب الأهليّة. هُدم ما هُدم وشيّد محلّه أبشع منه. الجبل بات الآن بيروتات أشدّ هولاً.
يُنسب الخراب إلى وحشيّة الغزاة. البرابرة، المغول، الصليبيّون، العثمانيّون… لكن هؤلاء لم يحجبوا السماء. بالعكس، كان دمارهم يزيد رؤيتها اتّساعاً.
لعلّ مَن يتذكّر البدر فوق سهل البقاع. فوق سماء كلّ ضيعة. كان يأكل السماء. كان الأولاد يفترشون العشب ليحصوا النجوم. لم يكن يقطع سكون الظهيرة وبرود القيلولة غير طنين النَحْل.
عالمٌ زال.
فردوسٌ مفقود آخر.
الأرجح هي طفولتنا التي كانت الفردوس.
… يجلس الأولاد قرب الشبّاك في الحافلة ويسرحون أمام المَشاهد. لحظة الوصول ينزل جميع الركّاب، وإذا كلّهم عجائز.
بلمح البصر يُخَتْيِر الأولاد.
يتركون عند الشبّاك روحَ الجنّة. 

السابق
التعبير عن الرأي أم انتقاص الذات ؟!
التالي
الثورة السورية في طور جديد ومرحلة متقدمة!