آثار صور ولعنة الاهمال

يبدو أن «قدراً» ما، وعلى الطريقة اللبنانية البحتة، شاء أن تكون المكتبة العامة التابعة للمنطقة، والتي تحمل بين رفوفها حكاية التاريخ الكاملة، محتويةً بين صفحاتها قصة آثار مترامية في جوارها. والضحيتان (المكتبة والآثار)، تجاوران أهالي صور الذين يجهلون رواية تلك الأعمدة الصامدة منذ الزمن الغابر، وهمومهم التي لا تحصى، أنستهم أيضاً قصة المكتبة منذ عقود.
العشب المتطفل، يغطي اليوم وبكل عنجهية، ما بنته الحضارات منذ آلاف السنين، فيبدو المشهد كأنه جزء من برية ما، لا يمكن أن يوحي بوجود موطن لآثار وحقبات تاريخية، طول «القامة» وحده ما ينجد تلك الأعمدة في التعبير عن نفسها وإطلاق صرخة «نحن هنا»، فالمنطقة بحد ذاتها، تدعى منطقة الخراب في مدينة صور، «ولكل من اسمه نصيب» ولا يبدو أن هذه التمسية تزعج أحداً في هذا البلد، ففي الوقت الذي يتغنى فيه المسؤولون اللبنانيون بالقطاع السياحي وأهميته على الاقتصاد، تهمل الدولة هذه المنطقة الأثرية التي تحتاج إلى اهتمام مضاعف، لأنها عامل جذب سياحي.. هي مسألة تثير الحيرة، بل وتحرك الشكوك.
«البناء» التقت عدداً من المعنيين بهذه المسألة ووقفت عند رأيهم.
«ليس هناك من مكلفين بالاهتمام بهذه المنطقة، أو متابعة شؤونها رسمياً»، لهذا السبب يرجع «ناطور الخراب» اسماعيل سلطانة (أبو عطوي) وصول هذه الآثار إلى الخراب، وعدم وصول هذه المعاناة بشكل جدي إلى الأروقة الرسمية، ويؤكد أن هذ المنطقة، كانت تمتاز بأحوال مختلفة في عقود مضت، وكانت تحظى بعدد كاف من الموظفين، لكن مع الوقت تراجع الإهتمام وتقلص عدد الموظفين.
شاهد على الزمن
أبو عطوي عُيّن من قِبل الدولة حارساً عام 1972 وما زال في وظيفته حتى اليوم، باستثناء أعوام الأحداث اللبنانية بين عامي 1972 و1982، ومن ثم عاد إلى متابعة مهتمه، والتزم بها حتى اليوم.
يروي: «عندما بدأت بالعمل عام 1972 كان عدد العاملين فيها 650 عاملاً بين وكيل ومسؤول ومهندس، وكانت منطقة يتردد عليها السيّاح بشكل كبير حتى قبل مرحلة توظيفي، ولكن في فترة التسعينيات، بدأ يتراجع عدد العمال والموظفين لعدة أسباب: فمنهم من كبر سنه وتقاعد ولم تعيّن الدولة بديلاً عنه، ومنهم من نقلتهم الدولة ووزعتهم على أماكن أخرى كالمحكمة المدنية والمطار وغيرهما، من دون تأمين بديل عنهم، إلى أن وصل عدد الموظفين في منطقة الآثار إلى ما بين عشرة وخمسة عشر شخصاً».
ويعتبر عطوي أن الدولة فعلت عكس ما كان مفترض أن يحدث، فبعد خروج لبنان من مرحلة الصراع الأهلي، كان عليها أن تولي اهتماماً الى المنطقة وتطورها عبر اتخاذ اجراءات مدروسة تُنظم العمل وتُحسّنه، ومنذ تلك المرحلة والسياسة الرسمية لم تتغير، خلال العام الجاري، أحيل ثلاثة من العاملين إلى التقاعد، وليس هناك بديل عنهم، حتى أن الأصغر سناً من بين الحراس المتبقين يبلغ من العمر 58 عاماً، ولم تعد لده القدرة على القيام بالأعمال، كتنظيف منطقة الآثار وإزالة العشب الذي افترس البقعة.
كارثة بيئية
ويذكر أبو عطوي أن المرة الأخيرة التي نظفت خلالها منطقة الآثار من العشب كانت منذ حوالى عشر سنوات، وفي السنة الماضية، أُزيل العشب عندما هب الهواء الشرقي واندلعت الحرائق في الآثار نتيجة كثرة العشب اليابس، وأصبح لهذا الإهمال ضرر مزدوج.
بدوي
المسؤول عن المواقع الأثرية في مدينة صور علي بدوي، تحدث عن الاشكالية المتعلقة بمنطقة الخراب في صور تحديداً، ووضع آثار المنطقة عموماً، مؤكداً أن مسألة الأعشاب هي إحدى المشكلات الكبيرة التي تتهدد المكان، ويقول: «عادةً، يجب أن يكون التنظيف والتخلص من الاعشاب حول الآثار دورياً مرتين في السنة، ويرش العشب المتبقي بالمبيدات الضرورية، لكن في هذه السنة لم تخصص ميزانية رسمية لهذه المسألة، ولم تقدّم أي جهة أخرى المساعدة، ولم يكن لدينا القدرة على استئجار عمّال للتنظيف».
ويضيف: «بما أن الإمكانيات محدودة، فإن أعمال التنظيف مركّزة على المسارات السياحية، ومنطقة الخراب التي نتحدث عنها ليست من ضمن هذا المسار، ما يعني أنها ليست من الأولويات، وفي هذه المنطقة بالتحديد لم تكتمل أعمال التنقيب، بعد أن توقفت في السبعينيات، وحالياً نحاول صوغ خطة تأهيل بديلة، وهناك فريق فرنسي مموَّل، سيقوم بهذا العمل».
حلول جزئية
الدولة هي المسؤول الأساسي عن تمويل هذه المشاريع، ولكن في بعض الأحيان، هناك بعض الأعمال التي تمولها بهبات من جهات متعددة (إيطالية، الوكالة الفرنسية للتنمية..)، لكن تبقى الإمكانيات ضعيفة وتقليص الموظفين خير دليل على ذلك: «كان يوجد 400 موظف وآخرهم وظّف عام 1978، وإلى اليوم لم يُوظف أحد، وأمر طبيعي أن من وظف في تلك الفترة تقاعد اليوم، فمثلاّ في آثار (البص) بقي موظف واحد، التوظيف مسؤول عنه مجلس الوزراء، وليس وزارة الثقافة التي نتبع لها، لكن هناك سعي دائم من قِبل الوزارة لتوظيف عمّال وحراس جدد».
ويشدد على ضرورة، الإسراع في أعمال التنظيف، كونها مطلباً أساسياً لحماية الآثار، ويجب أن تكون من ضمن مخطط منظم ومواصفات علمية وتحظى بميزانية .. «معقولة».
مشروع شامل
حالياً، يلفت بدوي إلى وجود مشروع كبير يشمل كل المواقع الأثرية من صيانة وترميم آثار، خصوصاً أن أعمال التنقيب كانت غير مكتملة، تأهيل المواقع (المداخل والمخارج)، الخدمات، تأمين المسارات السياحية، تأمين لوحات توضيحية، إنشاء متحف، فتح بعض المنشآت داخل المواقع الأثرية، ولكن ذلك ضمن الإمكانيات المتاحة، والأموال المحدودة جداً، سنبدأ بالأولويات الكبرى، ليبقى الهدف المستقبلي تأهيل كل هذه الزوايا الداخلة في المسار السياحي وغيرها، وبذلك تتأهل المدينة كلها وتصبح جديدة لا للسائحين فقط، وإنما لأهلها الذين يستحقون أن يعيشوا في مدينة تاريخية كصور.
دور البلدية
وعن دور البلدية التي يعتبرها بدوي تمثل سكان المدينة، يؤكد على أنها متعاونة ضمن امكانياتها، وتستفيد من الجباية لأن نصف الدخل يعود إليها حتى لو كان ضئيلاً.
وبخصوص الشائعة الكبيرة، حول التهديد بشطب المدينة من لائحة التراث العالمي، اعتبرها بدوي عملية ابتزاز وإحباط معنوي لا أكثر، وهي غير حقيقية على الأقل في هذه المرحلة.
والسؤال يبقى، هل من مغيث لصرخة عمرها آلاف الأعوام؟ وهل من معني بين المسؤولين، وهل من معجزة تستثني صور من لائحة الفساد اللبناني؟   

السابق
ندوةً في الأمم المتحدة لمعدومي الجنسية
التالي
اليونيفل يعزز مراقبته للخط الازرق