احتراماً للرقم

كان الرقم الاولي مخيفا، ثم جاءت الارقام التالية لتتحول الى كابوس مرعب. مع ذلك فإنها مرت مرور الكرام. لم تثر الاهتمام ولم تحرك الكثير من المشاعر. فقط بعض الذهول والتأفف والانتقال فورا الى موضوع آخر. ولم تحرك حشرية الإعلام العربي برغم الادعاءات المهنية والاخلاقية والانسانية العالية.

حتى الآن ما زالت الارقام تقريبية ومبهمة، وردت على لسان عدد من مسؤولي المجلس الوطني الانتقالي الليبي. لم يجر التدقيق بها، ولم يبذل أحد عناء التثبت من حقيقتها مع ان مثل هذه المهمة سهلة جدا، بل أسهل بما لا يقاس مما يذكر عن حجم الخسائر المادية التي قدرت بدقة متناهية أو التعويضات المالية التي حسبت بمنتهى الوضوح أو الودائع النقدية التي فك التجميد عنها وصارت تتنقل علانية بين المطارات وأمام الكاميرات.
الرقم الاول لعدد الضحايا البشرية التي سقطت خلال الاشهر الستة الماضية من عمر الثورة الليبية هو عشرون الف قتيل، ونحو ستين ألف جريح، فضلا عن المفقودين الذين قدروا بما يزيد على خمسين الفا.. هكذا ببساطة أذيع الاسبوع الماضي ان الشعب الليبي الذي يبلغ تعداده أكثر من ستة ملايين نسمة فقد ما يعادل جيلا كاملا من أبنائه. ثم سرعان ما تبين ان هذا الرقم غير دقيق، وهو يزيد بمعدل ثلاث مرات على ما ذكره المجلس الانتقالي، أي ان عدد القتلى يفوق الخمسين ألفا والجرحى يتجاوز المئة الف، وعدد المفقودين المئة وخسمين الفا. ما يدفع الرقم النهائي وغير الرسمي للضحايا الى أكثر من ربع مليون ليبي، أي ما يقارب الخمسة بالمئة من السكان.

البحث في هذه الارقام ما زال مستحيلا. المنظمات الانسانية الدولية توقفت عن الإحصاء. أما المؤسسات والمصادر الليبية والعربية والاسلامية عامة فإنها كما يبدو لم تكترث حتى الآن لهول الفاجعة. ربما لان الحرب لم تنته، وما زال العقيد معمر القذافي وأبناؤه يقاتلون ويهددون ويتحدثون عن عشرين الف مقاتل في مدينة سرت وحدها على ما جاء على لسان سيف الإسلام القذافي.. لكن توقف المعارك في طرابلس وبقية المدن الكبرى يسمح، أو يفترض أن يسمح بأن تكون المهمة الاولى للجان الثورية هي إحصاء عدد الضحايا وحفظ أسمائهم وصورهم في ملف الشرف الوطني وفي تاريخ ليبيا الحديث.

الامل هو ان تكون هذه الارقام مبالغا بها، وقد أطلقت حسب التقليد العربي المعروف الذي يعتبر المليون قتيل أو جريح أو مفقود مجرد مزحة، أو عبرة لمن لا يعتبر، أو فكرة تستخدم في نقاش أو مقال أو حتى في وثيقة، من دون أدنى اعتبار لكون المليون رقماً وحشياً، حتى ولو استخدم على الحيوانات.. مع ان العقيد وأبناءه لا يمزحون، وقد كان وعدهم منذ البداية بأن يغرقوا ليبيا بدماء شعبها.
قليلاً من الاحترام للرقم البشري الذي يستحق التدقيق فيه، كما يستأهل أن يرتقي على رقم الاوراق النقدية التي تتطاير هذه الايام في سماء ليبيا وبقية دول حلف شمالي الاطلسي.

السابق
ميقاتي: لا نخرج عن الرعاية الدولية
التالي
الحرب الاستباقيّة على الحريري بدأت من طرابلس!