أحجية أنطلياس.. الأمن يستغرب اسـتعجال القضاء

بغياب أي متحدث رسمي يكشف للجمهور حقيقة ما يجري، تكثر التكهنات بشأن الحوادث الأمنية. وفي ظل الانقسام السياسي العمودي الذي تعيش البلاد تحت وطأته، يمكن أن يتحول حادث عرضي أو خلاف فردي إلى عمل إرهابي. أحدث مثال على ذلك جرى في أنطلياس يوم الخميس الماضي

منذ وقوع انفجار أنطلياس يوم الخميس الماضي، ظهر الارتباك في أداء الإدارات الرسمية المعنية بتقديم أجوبة إلى الجمهور بشأن حقيقة ما جرى. وقبل أن يظهر الارتباك، حسمت قوى 14 آذار أمر الانفجار، واضعة إياه في خانة العمل الإرهابي الفاشل. جرى الاستناد إلى الانتماء الطائفي والمناطقي للقتيلين: إحسان ضيا وحسان نصار، من أجل الجزم بأنهما ينتميان إلى حزب الله، ونسج خيوط «الحقيقة» التي يُراد أن تثبتها التحقيقات. في اليوم التالي، قدّم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر حجة إضافية لقوى 14 آذار، عبر ادعائه على مجهولين «بجرم الاشتراك مع المتوفّين في تجهيز عبوة ناسفة وتفجيرها في مرأب للسيارات في أنطلياس».

ادعاء صقر استغربه مسؤولون أمنيون وعسكريون، بعضهم لا يزال منغمساً في التحقيقات التي يجريها الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. ومنبع الاستغراب يعود إلى الوقائع التي صارت متوافرة لدى أكثر من جهاز أمني، وفقاً للآتي:
صباح الانفجار، أتى حسان نصار من بلدته كفرحونة إلى بيروت، للقاء صديقه إحسان ضيا. وللأخير في ذمة الأول مبلغ كبير من المال، كان نصار قد استدانه على أمل القيام بعملية تجارية يستورد بموجبها زيوتاً إلى لبنان. تعثرت تجارة نصار، فلم يتمكن من إعادة المال إلى إحسان ضيا. وصار الأخير يلح طالباً استرداد أمواله. وعد نصار ضيا بالحصول على قرض من مصرف، يردّ له منه ماله. معاً، توجه الرجلان إلى «فرع فيرست ناشيونال بنك» في الحازمية. فنصّار كان يعتقد بأن أحد معارفه يعمل في المصرف المذكور، وهو من آل شعيب. قابل نصار وضيا مدير المصرف المذكور، وسألاه عن شعيب، فرد المدير قائلاً إن شعيب انتقل إلى فرع المصرف في أنطلياس. طلب نصار تقديم طلب للحصول على قرض. ولما راجع مدير المصرف حسابات نصار، أجابه قائلاً: حسابك مقفل عندنا، ولا نستطيع أن نعطيك قرضاً لأنك تعثرت في سداد القرض السابق. فنصار كان قد حصل، قبل سنوات، على قرض من المصرف المذكور ــــ فرع حارة حريك (حيث كان يعمل شعيب)، بكفالة شقيقته.

وقد تعثر في سداد القرض، فصار المصرف يسحب الأموال اللازمة للسداد من حساب شقيقة نصار.

أصر الأخير على لقاء شعيب، فاتصل مدير فرع الحازمية بشعيب في أنطلياس، قائلاً له إن حسان نصار يريد لقاءك، فرحب شعيب. وبالفعل، توجه ضيا ونصار من الحازمية إلى أنطلياس. كان ضيا يقود السيارة المسجلة باسمه. وبحسب كاميرات المراقبة المثبتة على المصرف، دخل ضيا بسيارته الموقف القريب من المصرف، فلم يجد مكاناً يركن فيه السيارة. تحرك في الموقف ذهاباً وإياباً أكثر من مرة، قبل أن يركنها في المكان بالعرض، مقفلاً الطريق على سيارتين متوقفتين.

وبحسب ما تُظهره الكاميرا، فإن ضيا ترجّل من السيارة، متوجهاً نحو مؤخرتها حيث لاقاه نصار. ولما اقترب الأخير من ضيا، وقع الانفجار. كان نصار لا يزال يضع يده في جيبه.

وبحسب المعطيات التي تمكن المحققون من جمعها، فإن نصار نزع حلقة أمان القنبلة التي كانت لا تزال في جيبه، ورماها أرضاً، وقد سمع أحد الشهود صوتها. ولما اقترب من ضيا، انفجرت.
ويؤكد غير مسؤول أمني، سواء من الجيش أو من قوى الأمن الداخلي (وبعضهم من المحسوبين على قوى 14 آذار) أن ما انفجر في جيب نصار ليس سوى قنبلة يدوية. فقد عثر المحققون على حلقة الأمان العائدة لها، فضلاً عن «الملعقة» التي يسمح فتحها بانفجار القنبلة. أما ما استند إليه القاضي صقر في ادعائه الذي قال فيه إن ما انفجر هو عبوة ناسفة، فليس سوى الكرات الحديدية التي عثر عليها في مكان الانفجار، وشريط لاصق عثِر على آثاره، ما جعل القاضي يستنتج بأن عبوة ناسفة كانت معدة للتفجير، بعدما جرى إلصاق أجزائها بعضها ببعض بواسطة الشريط المذكور. ولفت خبير عسكري إلى أن بعض المواطنين الذين يقتنون قنابل يدوية، يلفّون «ملاعقها» بأشرطة لاصقة، لمزيد من الاحتراز، خشية أن تنسحب حلقة الأمان عن طريق الخطأ. وبحسب الخبير ذاته، فمن الممكن أن يكون جزء من الشريط اللاصق لا يزال على القنبلة اليدوية، وعثر على آثاره بعد التفجير. اما الكرات الحديدية، فهي موجودة في أنواع عديدة من القنابل اليدوية.

ورأى أكثر من مسؤول أمني (سواء من المؤيدين لقوى 8 آذار أو من المحسوبين على قوى 14 آذار) أن كل المعطيات المتوافرة تُبعِد من الاحتمالات فرضية العمل الإرهابي في ما جرى، لأسباب شتى، أبرزها طبيعة عمل الشابين المتوفّين، وسجلاتهما، وكل ما كان في حوزتهما من بطاقات تدل على هويتيهما، والسيارة المسجلة باسم أحدهما، إضافة إلى زيارتهما المصرف في الحازمية. ورجح أكثر من مسؤول أمني أن يكون نصار قد وصل إلى درجة من اليأس دفعته «إلى الانتحار بهذه الطريقة»، مشددين على ضرورة انتظار النتائج النهائية للتحقيقات.
وأكد غير مسؤول أمني أن التقرير المخبري الذي عكف محققو الأمن الداخلي على إعداده سيُقدّم إلى قاضي التحقيق العسكري خلال أيام. و«لمزيد من التوضيح» في هذا المجال، من المنتظر أن ينظم فرع المعلومات تقريراً خاصاً بالتحقيقات، بعدما أرسل قاضي التحقيق العسكري الذي يتولى التحقيق بـ«الجريمة الإرهابية» استنابة قضائية للفرع، داعياً إياه إلى تزويد القاضي بما في حوزته من معطيات يمكنها أن تؤدي إلى كشف حقيقة ما جرى في أنطلياس.

واستغرب مسؤولون أمنيون بالتحقيقات مسارعة القاضي صقر إلى الادعاء في هذه القضية، بدل الانتظار أياماً قليلة حتى تصله كل التقارير التي ينظمها محققو الجيش والأمن الداخلي، وخاصة أن طبيعة الانفجار ملتبسة، وأن الاجهزة الأمنية لم توقف أحداً مشتبهاً فيه. وبحسب المصادر، فإن الخبراء لم يعثروا بعد على آثار لمواد متفجرة غير تلك الموجودة في القنبلة اليدوية، وهم سيوردون ذلك في التقارير النهائية التي ستُرفَع إلى قاضي التحقيق العسكري، ما سيلغي نهائياً صفة العبوة الناسفة عن الجسم الذي انفجر.

السابق
تبغ رمضان: مزارعو الصوم الشاقّ والتعب المضاعف
التالي
في عيد انتصار المقاومة:هل تخسر العروبة قلبها النابض؟