هل تتحوّل «الشؤون الاجتماعية» من «صندوق بريد» لتنصرف إلى التنمية الحقيقية؟

 خصّت حكومات لبنان، منذ اتفاق الطائف وولادة الجمهورية الثانية وحتى الأمس القريب، الشأن الاجتماعي والإنماء المتوازن في بياناتها الوزارية، بفقرات ومساحات لغوية ملحوظة.. حتى كادت كل حكومة من الحكومات المتعاقبة تنسخ مفردات بيان تلك التي سبقتها، خصوصاً على مستوى المسألة المعيشية والاقتصادية التي تعني المواطن بالدرجة الحياتية الأولى.
فالخلاف بين حكومات «وطنية» أو «معارضة» أو «موالية»، يتلاشى لمصلحة الاتفاق على النهوض اللفظي بحياة المواطنين كافة، وتحديداً الفقراء والمهمشين من بينهم. خلافٌ يتلاشى حتى ولو برزت فلسفات اقتصادية مختلفة، بين الحكومات المتعاقبة. ولكن، لم يتخط ذلك الالتزام الجامع يوماً مرحلة الوعود إلى التنفيذ الفعلي على الأرض، فبقيت تعهدات الحكومات حبراً على ورق بياناتها، والأدلة الدامغة كثيرة، وليس أقلها دلالة الدرك المعيشي والاقتصادي الذي بلغه المستوى الحياتي للمواطنين.
ويكفي استعراض حال القطاعات الإنتاجية، والوزارات الخدماتية التي تعتبر بوابة التنمية والإنماء المتوازن، تقديم فكرة وافية عن المعايير الكثيرة التي تحدد السياسات المعتمدة، والتي يبدو أنها لا تلحظ مصلحة المواطن. وتأتي وزارة الشؤون على رأس الوزارت الخدماتية التي يفترض أن تشكّل أساس النهوض الإنمائي في البلاد.
وتعلن وزارة الشؤون الإجتماعية، في موقعها على الإنترنت، أنها تعتمد في تحقيق أهدافها الخدماتية و«محورها الناس»، على «تنفيذ استراتيجية جديدة للعمل الاجتماعي تقوم على الانسجام مع المفهوم المعاصر للتنمية البشرية، والذي يركز على المسؤولية الاجتماعية وعلى جعل الانسان محور عمليات التنمية وهدفها». وتقول الوزارة إنها تؤدي دورها عبر ما تسميه «الاستجابة للحاجات الأساسية للفئات الأكثر حاجة، بناءً على دراسة عملية لخصائص هذه الفئات والبرامج الأكثر ملاءمة للتعامل مع مشكلاتهم»، وعبر التركيز على «لا مركزية العمل الاجتماعي التنموي والإنماء المتوازن للمناطق الجغرافية»، وعلى «التكامل والشراكة بين القطاعين الرسمي والأهلي، على مختلف الصعد».
تالياً، تنظر الوزارة إلى دورها على أنه «لا يقتصر على تقديم المساعدة للفئات المحتاجة فحسب، بل يتعداه الى الدور الإنمائي المتكامل».
تلك هي النظرية.. فكيف تطبّق على الأرض؟
سعدى علوه
120 ملياراً من أصل 165 إلى المؤسسات
من أصل موازنة قدّرت للعام 2011 بمئة وخمسة وستين مليار ليرة لبنانية، تدفع وزارة الشؤون الاجتماعية ما مجموعه مئة وعشرين مليار ليرة لبنانية إلى مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ومن المعروف أن حصصها تحدد سلفاً بناء على توزيعات دينية وطائفية ومذهبية، وبناء على محسوبيات. وبذلك، تبلغ حصة المؤسسات الرعائية نسبة 72 في المئة من موازنة الوزارة، وهو رقم ليس خاصاً بموازنة العام 2011، وإنما ينسحب على مجمل موازنات الوزارة منذ إنشائها وحتى اليوم.
وإذا كانت الجمعيات، بعد اقتطاع مستحقاتها غير القابلة للمسّ، تترك لوزارة الشؤون مبلغ خمسة وأربعين مليار ليرة من موازنتها، فإن الأخيرة تدفع منها حوالى مليار ليرة لبنانية لجمعيات أخرى تعمل على أساس العقود المشتركة مع الوزارة.
وبذلك، لا يبقى للعمل الاجتماعي، بعد اقتطاع رواتب الموظفين والمتعاقدين والأجراء وتعويضاتهم العائلية وكلفة النقل والصيانة والمياه والكهرباء والاتصالات وسواها من المصاريف المتفرقة، إلا حوالى ثلاثين مليار ليرة.. علماً أن كلفة مشاريع هامشية، كتنفيذ جدران الدعم والأرصفة التي تموّلها الوزارة، والتي تتخذ طابع التنفيعات والمحسوبيات، لا تقلّ عن مليار ليرة سنوياً. وذلك كله موثّقٌ في تقديرات النفقات التي تصدرها الوزارة نفسها.
ولدى التدقيق في ما يتبقى من موازنة الوزارة، يتبين أن السواد الأعظم من تلك الأموال يُوزّع على مراكز خدماتية وتدريبية، ومشاريع اجتماعية، ومخيمات عمل تطوّعي، بالإضافة إلى مخصصات المجلس الأعلى للطفولة.
فمن أين تأتي وزارة الشؤون بالمال لتنفّذ استراتيجيتها الإنمائية، ولتخرج من تصنيفها الشائع بين المتابعين للشأن المعيشي والاقتصادي العام، بأنها مجرد «صندوق بريد»، تدفع عبره الدولة المستحقات المقرّة للقيمين على الأديان والطوائف، ممثلين بجمعياتهم؟
ويضاف إلى ذلك أن نسبة الشواغر الوظيفية في الوزارة تصل إلى 70 في المئة، وعلى رأسها مركز المدير العام الشاغر منذ العام 2005، ومواقع سبعة رؤساء مصالح من أصل إثنتي عشرة مصلحة تتكون منها هيكلية الوزارة الوظيفية. وتكفي هنا الإشارة إلى النقص الحاد في العاملين الإجتماعيين والمراقبين الذين يشرفون على عمل المؤسسات، ومن بينها المؤسسات الرعائية، لتُعرف وتيرة سير العمل فيها وكيفيته.
فيبلغ عدد المراكز الاجتماعية التابعة مباشرة لـ«الشؤون» أو بالشراكة مع المجتمع المدني، حوالى مئتين وعشرين مركزاً. وشهدت مراكز الخدمات «طفرة» في التفريع غير مسبوقة في عهد الحكومة السابقة، ليتبين أن مقدرات بعضها لا يتجاوز طاولة وثلاث كراسي وركوة القهوة، مع بعض التوظيفات، والمحسوبيات، خدمة لعيون نائب أو حزب أو تيار، هنا أو هناك. ولم تُدفع الرواتب في إثنين وثلاثين مركزاً منها، منذ فترة طويلة، من دون وضع خطة عمل اجتماعي واضح وفعّال، رغم وجود موارد مالية ومخصصات لها.
.. لكن الوزير متفائل
عندما تواجه وزير الشؤون الاجتماعية الجديد وائل ابو فاعور بتلك الوقائع، ينتفض بحسه التفاؤلي أولاً، ليصف الكلام بـ«التشاؤمي»، مؤكداً أن «الصورة ليست سوداوية إلى هذه الدرجة».
وبعد التدقيق في مقاصد الوزير الشاب الوافد من مدرسة «الحزب التقدمي الاشتراكي»، يظهر أن تفاؤله مبني على أمله بأن تستجيب الدولة، والحكومة ووزارة ماليتها بشكل خاص، لاقتراحه بمضاعفة موازنة وزارة الشؤون للعام 2012، وإلا «نعم، ستبقى «الشؤون» مجرد صندوق بريد»، مؤكداً على أنها «حتى اللحظة، ليست وزارة للتنمية الاجتماعية».
ويخبر أبو فاعور عن نيّة بقلب الفلسفة الرعائية القائمة حالياً، من مفهوم «الصدقة» إلى التنمية الحقيقية، من منطلق «تعليم الصيد بدلاً من منح سمكة»، شارحاً أن «ذلك يحتاج إلى تعديل هيكلية وزارة الشؤون من أساسها»، ليكون الهاجس الكبير: «تغليب التنمية على الإعانة العابرة».
ونظراً لصعوبة المهمة، وخصوصاً لجهة المسّ بما تعتبره الطوائف من مكتسباتها التاريخية وخاضع للخط الأحمر، يقول أبو فاعور إن «جزءاً من هذا العمل يقع على عاتق الوزير وفريق عمل الوزارة، ولكنه يتعلق بالدرجة الأولى بالدولة نفسها، بمختلف أطيافها السياسية».
ويعترف أبو فاعور للمؤسسات الرعائية بفضلٍ في مساعدة المحتاج واليتيم وبعض الفئات المهمشة، وتالياً، بتعويض النقص على المستوى الرسمي، ولكنه يرى أن «خلــق توازن بين المهــام والموازنة يتطـــلب تطبيــق معايير شفافة».
وتطبيق المعايير الشفافة لعمل المؤسسات، يكون، وفق أبو فاعور، عبر «تقديم نوعية جيدة للخدمات تتناسب مع حجم الحاجة الفعلية». ويشير أبو فاعور هنا، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى أنه اتخذ قرارات بالتفرقة ما بين الإيواء الداخلي ونصف الداخلي، في تلك المؤسسات، بما يتيح تطبيق الفلسفة الاجتماعية القائلة بالحفاظ على بقاء الطفل ضمن أسرته قدر الإمكان، وليس نزعه من حضنها وإيوائه في مؤسسات رعائية، إلا في حالات الحاجة القصوى التي تحددها المعايير الشفافة.
وعلى مستوى المؤسسات الرعائية بحدّ ذاتها، يكشف أبو فاعور أن «الكلفة التي تدفع عن كل حالة، لطفل أم معوق أم مسن، في تلك المؤسسات، لا تزال محكومة بتقديرات العام 1997، أي أنها أقل من الكلفة الحقيقية والفعلية». وهنا، يطرح سؤال عن حجم الزيادة الذي يُنتظر من وزارة الشؤون أن تدفعه للمؤسسات الرعائية، وفقاً للكلفة التي تتناسب مع المستوى المعيشي الحالي وكلفته؟ «وهل ستأخذ الوزارة من زيادة موازنتها بيد، ما ستدفعه باليد الأخرى، ما يعيدها إلى طابعها الحالي كصندوق بريد؟».
فلسفة اجتماعية جديدة
بالانتقال إلى كيفية تغليب التنمية على الإعانة، يشير أبو فاعور إلى تفاجئه بوجود معمل لحياكة السجاد والكيلين في عكار، تابع للوزارة ومقفل، وكذلك بعدم تشغيل معمل تجميع الحليب المجهز في الكواشرة (عكار أيضاً)، ومعمل للسجاد في الفاكهة في البقاع الشمالي. ويعد أبو فاعور بـ«التركيز على معاصر الزيتون في المناطق، وتحويل أموال جدران الدعم والأرصفة إلى برامج إنمائية حقيقية تعود بالريع على المجتمع المحلي في كل لبنان، ومن دون تمييز، مع إيلاء الأولوية للمناطق المحرومة»، داعياً البلديات «كشركاء محليين، إلى تلقف التوجه وتقديم مشاريع تتماشى معه».
وعلى مستوى ملء الشواغر، يشير أبو فاعور إلى أنه يستكمل تعيين العاملين الاجتماعيين والمساعدات الاجتماعيات من بين الناجحين في مباريات الخدمة المدنية، مؤكداً أن «العمل لتعيين مدير عام للوزارة جار على نار حامية بعد الإطلاع على الأسماء التي اقترحها مجلس الخدمة المدنية من الكفوئين والمؤهلين والذين لا تعيق توظيفهم أي موانع إدارية أو سلوكية، تمهيداً لرفع ثلاثة أسماء إلى مجلس الوزراء».
ويضع وزير الشؤون الاجتماعية قضية زيادة موازنة وزارة الشؤون، علماً أنه رفعها بقيمة ثلاثمئة مليار ليرة للعام 2012، في رأس السبل المؤدية إلى تفعيل الوزارة، مشيراً إلى انه سيخوض «معركة» لأجل ذلك.
وبالإضافة للموازنة، يمكن للوزارة، وفق أبو فاعور، أن تستفيد من الهبات والمشاريع التي تنفذ بتمويل دولي، مشيراً إلى «الهبــة الإيطالية التي سمحت الحكومة للوزارة بقبولها والبالغة قيمتها مليونين وأربعمئة الف يورو، بشرط أن تدفع الدولة مقابلها مليون يورو، لصرفها في مشاريع تنمية حقيقية».
ويكشف أبو فاعور أنه سيعمد إلى «لبننة» مشاريع الهبات التي يمكن أن ترد إلى الوزارة، أي أن سيحاول توزيعها تبعاً للأجندة الاحتياجية الخاصة بالمجتمع والناس، وليس المموّل، عبر تحديد الأولويات وإبلاغ الجهات الممولة بها، وبضرورتها على مستوى حياة المواطنين.
وتحدث أبو فاعور عن «خطوات لا تكلف الوزارة أموالاً ومصاريف، ومنها مثلاً السهر على تطبيق القانون 220 الخاص بالمعوقين»، مشيراً إلى «اجتماعات عقدها مع رئيس مجلس الخدمة المدنية خالد قباني للالتزام بكوتا التوظيف البالغة نسبتها ثلاثة في المئة للمعوقين في إدارات الدولة، ومن ثم الالتفات لتطبيقها على القطاع الخاص عبر سلة من الحوافز من جهة والعقوبات من جهة ثانية». 

السابق
وفاة سجين في رومية بعدما أحرق ورفاقاً له أمتعتهم
التالي
مجموعات شبابية انطلقت في رحلتها السنوية إلى أعالي جبل الشيخ