الربيع العربي ثورة لإطاحة “الأنظمة الثورية”

 
الربيع العربيّ الثوريّ الكبير لعام 2011 أسقط أنظمة وسيأتي على أخرى، وها إنّه يفيض على شعوب المنطقة، كما إنّه إذ نهل من الثورة الخضراء المظلومة للشعب الإيرانيّ لا بدّ أن يسهم في إعادة تأهيلها من جديد. إنّه ربيع الشعوب الكبير بوجه طواغيت التحرّر الوطنيّ. ما كان أحد ينتظره ولا أحد يتهيىء له. لكنه جاء بعد أعوام قليلة على تعثّر الموجة الأخيرة من التوسّع الديموقراطيّ الليبراليّ بإتجاه الشرق، وهي موجة شكّلت "الثورة البرتقالية" الأوكرانية منارتها الأكثر توهجّاً، ثم خيبتها الرئيسية.

لكنّ الربيع العربيّ الثوريّ الكبير لعام 2011 هو أيضاً في وجه من وجوهه ثورة مضادة، ولا ضير في ذلك.

فالأنظمة الجمهوريّة العربية لطالما عرّفت عن نفسها باعتبارها أنظمة ثوريّة. لطالما قدّمت قمعها وبطشها باعتباره ضرباً من العنف الثوريّ الذي تمارسه طليعة الشعب المجرّبة والمسلّحة في وجه أعداء الشعب، كما تمارسه لتطهير نفسها بين الفينة والفينة.

"الإندساس" هو في الأساس نظرية ثورية، بدءاً من الثورة الفرنسية الكبرى نفسها، وكذلك "نظرية المؤامرة" هي في الأساس من إفرازات الأيديولوجيا الثورية. فالثورة بموجب هذه الأيديولوجيا لا تكون ثورة إلا إذا ظلّت قادرة على كشف المندسّين أوّلاً بأوّل، وتفسد حالما يمسك بها السأم عن كشف المندّسين وتطهير الجموع منهم.

والزعيم الخالد والأوحد فرضته الأيديولوجيا الثورية أيضاً، وليس أبداً الأيديولوجيا الرجعية أي المعادية للثورة. الزعيم الأوحد لا غنى عنه بموجب الأيديولوجيا الثورية لأنه "الشرط الذاتي" (العقل الفعّال) الذي يجسّد "الوحدة الموضوعية" (التاريخ)، أي الوحدة الموضوعية بين الدولة والثورة، والشعب والطليعة، والحزب والجبهة، والجماهير المسلّحة والجيش الجماهيريّ العقائديّ. كما أنّ الزعيم الخالد والأوحد هو الضرورة التي يفرضها الزمن الثوريّ المزعوم لوصل ماضيه بحاضره وبمستقبله.

أمّا رفض الأنظمة الجمهورية العربية للديموقراطية التمثيلية القائمة على مبدأ فصل السلطات، فإنّ الأيديولوجيا الثورية تبرّره من منطلق أنّ لا حصانة للبرلمانيين أمام الشعب، وأنّ الأفراد أعداء كامنين متربّصين بالجماهير، وعلى الجماهير دوام اليقظة لسحق هذا الجرذ التفتيتي المتآمر الذي اسمه الفرد.

أمّا "التوريث" فهو الشكل الأمين لحفظ السرّ الثوريّ المجسّد في الزعيم، بسرّ آخر من صلبه. فما دامت الأيديولوجيا الثورية ترمي إلى محو "الإنسان القديم"، إنسان ما قبل الثورة، فليس هناك أفضل من ان يولد الإنسان الجديد من دم ولحم القائم بالثورة، وأن تتواصل الثورة بالتوريث جيلاً بعد جيل. وبهذا المعنى، لا يعد النظام الشيوعي في كوريا الشمالية نشازاً، بل إنه في عرف الأيديولوجيا الثورية نجح في توريث السرّ الثوريّ المطلق من الجدّ كيم إيل سونغ إلى الإبن كيم جونغ إيل إلى الحفيد كيم جونغ أون، أما في كوبا فإن "أسطورة اليخت غرانما" لا تحفظ إلا باستخلاف الشقيق لشقيقه، والأنظمة الأكثر تعلّقاً بأهداب الأيديولوجيا الثورية في العالم العربي أي النظامين البعثيين في العراق وسوريا هي التي تقدّمت أكثر من سواها في مسيرة التوريث، وإن تفرّدت سوريا من بين جميع الأنظمة الجماهيرية الثورية العربية ذات المسعى التوريثيّ، بأن حقّقت هذا التوريث بالفعل قبل احدى عشر عاماً، وها إنّه يترجم اليوم إبادة ثورية للشعب السوريّ، بداعي الإصلاحات، لكن أيضاً وفقاً لمرتكزات الأيديولوجيا الثورية: القمع بصفته تنويراً في وجه السلفيين وعنفاً ثورياً لأجل إعادة شحن العزيمة الثورية في النفوس الضعيفة، بشّار الأسد بصفته الثورة الحقيقية التي يحاول الشعب السوريّ الإندساس بها أو طعنها في خاصرتها مؤتمراً بذلك من أهل المؤامرة الكونية.

بل أنّ التوريث كمسلك موصوف في الأيديولوجيا الثورية لم يبدأ منذ عقود، فماكسيمليان روبسبيير قائد المرحلة الأكثر تطرّفاً في الثورة الفرنسية الكبرى، والذي أعدم ولم يتجاوز الـ36 عاماً، كان يهيىء شقيقه أوغسطين الذي عُرف باسم "روبسبيير الفتى"، وكان يكلّفه بما يكلّفه بشّار الأسد لماهر الأسد، وهذه التجربة لم يكتب لها أن تتم، لأن الثورة الفرنسية اختصرت مرحلة "الرعب الثوريّ الكبير"، بأن وجهت كل من ماكسميليان وأوغسطين روبسبيير إلى المقصلة.. فإن كانت هذه هي عاقبة الأيديولوجيا الثورية مع ماكسميليان وأوغسطين روبسبيير اللذين نهلا من فكر التنوير ومارسا المحاماة وحلما مطوّلاً بفجر حقوق الإنسان والمواطن، فماذا تكون عاقبة هذه الأيديولوجيا الثورية مع بشار وماهر، كما ورثاها عن أبيهما حافظ الأسد؟

الأخوان روبسبيير كانا يدمنا قراءة أعمال جان جاك روسو، واستوقفتهما تحديداً ما كان يقوله حول وجوب إعداد العدّة لتحويل الناس إلى "مواطنين"، فاستنتجا أنّ ذلك لا يكون إلا بقرارات الحكومة الثورية التي عليها "إعادة خلق" أطراف العقد الإجتماعي قبل إبرام هذا العقد. ومهما كانت المسافة بين هذا الأصل وبين تلك النسخة الرديئة والأكثر همجية من الناحية الدموية والتي يُنكب بها الشعب السوري اليوم، لكنه يواجهها بقوة، فإنّ هذا ما يقوله بشّار الأسد عندما يؤكد "مواصلة مسيرة الإصلاح": يفهم من ذلك إنّه اهتدى هو الآخر إلى ضرورة إبرام "عقد اجتماعي" في سوريا لكنه يريد إبادة الجيل الحالي من الأحرار السوريين كوسيلة ثورية من أجل خلق أطراف العقد الإجتماعيّ المنشود.
 

السابق
جنبلاط في تركيا: كلمة السر
التالي
منهجيات متناقضة في العودة لاستئناف المفاوضات لقطع الطريق أمام السلطة الفلسطينية في الوصول الى الأمم المتحدة