تأسيس عداء جديد

كأنها لعنة إلهية أو قدر مشؤوم أن يتبادل لبنانيون مهمة حفر خنادق العداء مع سورية.

مرة بذرائع سيادة لبنان وحريته واستقلاله المهدد من الوصاية السورية تنهض شوفينية لبنانية تستهدف العمال السوريين، ومرة بحجة دعم النظام العربي الوحيد الممانع والمقاوم للإرادات والإملاءات الأميركية والإسرائيلية. والنتيجة واحدة: تعميق التنافر بين شعبين يدرك كل ذي بصر عمق ترابط مصالحهما ومستقبلهما.

دعونا نقل قولاً مباشراً إن السلوك اللبناني في مجلس الأمن عند مناقشة المسألة السورية، ينم عن جبن سياسي أكثر كثيراً مما يستوحي «حكمة» المصلحة الوطنية. الجبن هو ما ميّز التعامل اللبناني الرسمي مع آلاف اللاجئين السوريين في شمال لبنان. وهو ما صبغ تسليم الأجهزة اللبنانية نظيرتها عبر الحدود جنديّين عبرا إلى لبنان أثناء أحداث تلكلخ. والشواهد لا تتوقف هنا.

تتحمل الحكومة الحالية والقوى المنضوية فيها مسؤولية عن «نأي لبنان بنفسه» عن البيان الصادر عن مجلس الأمن والمتضمن إدانة لممارسات النظام السوري بحق المواطنين المدنيين. بيد أن ما جرى في مجلس الأمن ليس وليد اللحظة السياسية الحالية. وسبق أن اتخذ لبنان، منذ انضمامه عضواً غير دائم العضوية في المجلس، مواقف تعكس الضعف البنيوي في سياساته وإجماعاته الوطنية، على غرار الموقف من العقوبات الدولية على إيران حيث امتنع عن التصويت خشية الظهور بمظهر المنحاز إلى الأميركيين أو الإيرانيين.

لقائل أن يقول إن ليس على الدول الصغيرة من حرج. وإن سوء الحظ في الجغرافيا السياسية، درع كافٍ يصدّ لوم اللائمين. فلبنان، بتركيبته السكانية وموقعه الجغرافي وانقساماته العمودية (وهذه كلها عبارات ملطفة لحقيقة فشل مشروع بناء الدولة في بلدنا) واعتماده الكبير على المساعدات والهبات والتحويلات من الخارج، لا يستطيع تحمل غضب الإخوان والجيران أو مقاطعة الأصدقاء. عليه، من واجبات الحكومة اللبنانية، بغض النظر عن الجهة السياسية التي تهيمن عليها أن تتمسك بـ «الشطارة» وألا تضع البلاد في أتون تجربة دموية أو اقتصادية جديدة.

الكلام هذا عينة على قِصَر نظر ما فتئ السياسيون اللبنانيون، من التيارات والانتماءات كلها، يشيعونه مستندين فيه إلى منطق صغار التجار وأصحاب الحوانيت. ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل ارتداد النهج والعقلية المركنتيلية هذين وبالاً على لبنان، من سياسة «قوة لبنان في ضعفه» إلى الاستقواء بالغزاة والطغاة الأجانب على أبناء الوطن.

وإذا كان من الحصافة عدم إلقاء لبنان، بسبب ظروفه المعروفة، في الصراعات الإقليمية والدولية المهلكة، كما فعل سياسيونا ومواطنونا في السبعينات والثمانينات، ما أسفر عن دمار لم يبرأ اللبنانيون، بعد، من تبعاته على كل هياكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فإن التمسك بالحد الأدنى من الحفاظ على المصلحة الوطنية ومن النبل الأخلاقي، يعلن عن قدر أكبر من الحصافة.

والسؤال البسيط الذي يتعين توجيهه إلى من أصدر التعليمات إلى بعثة لبنان في الأمم المتحدة، يتعلق بتصوره لمستقبل العلاقات بين الشعبين والدولتين في سورية ولبنان، بعد حصول التغيير في دمشق والذي بات في حكم تحصيل الحاصل. وقد يتأخر التغيير لأشهر وترافقه صعوبات وعنف ودماء، لكن بشائره لم تعد تخطئها العين.

مع ذلك، لا تجد الحكومة اللبنانية من بأس في تأسيس عداء جديد مع الشعب السوري باحتقارها معاناته والفظائع التي ينزلها به النظام القائم. ألم يحن بعد وقت إقامة علاقات أساسها المصالح الواضحة والاحترام المتبادل، من الحكومتين للشعبين؟

السابق
ورطة الموقف اللبناني وتدويل الوضع السوري
التالي
بعد هدم مدرسة تاريخية: نجل الرئيس برّي يقفل طريق باب السور العتيق في تبنين