«سذاجة» المعتدى عليهم.. ومحنتنا الأخلاقية

لسنا في اوروبا، ولن نكون. «الحمرا» تخدع حواسنا. تجعلنا نشعر أننا في مدينة غربية. مدينيتها لا يضاهيها فيها أي جزء آخر من بيروت، حتى الاشرفية. الشبان والشابات المعتدى عليهم نالوا عقاب مثل هذه التخيلات عن الحمرا. عوقبوا بأن شجت رؤوسهم وكسرت عظامهم. هذا مخجل بالطبع. أن المجموعة المعتصمة بغتة بلا ترخيص لا تستطيع الدفاع عن نفسها ولا وجدت من يردّ عنها هجوم الغاضبين الذين قرروا البقاء مجهولين لأنهم يستحون بما يفعلون، ولأن الترهيب يكون أكبر حين يكون صاحبه في العتمة. 
لا يعود مجدياً اتهام حزب بأن عناصره شاركوا في الاعتداء على المعتصمين، ولا انهم لعبوا دوراً «لوجستياً» في جمع اللبنانيين والسوريين حماة السفارة. اتهام الحزب ليس مجدياً لأنه انكر ضلوعه بالاعتداء، مع أن «النخوة» صفة وطنية وقومية وربما دولية لا تُنكر. 
القوى الأمنية هي التي عليها حماية المتظاهرين، كما حماية السفارة السورية، أسوة بغريمتها الاميركية في عوكر على الاقل. وعلى عاتقها الفصل بين التظاهرة وضدها على ما درجت العادة البيروتية في التظاهرات القليلة مذ اندلعت ثورة سوريا واضطراباتها. 
المباغتة في التظاهرة كانت خطوة الناشطين الناقصة. هؤلاء بلا ظهر يحميهم. وحدهم. مجموعة من الافراد المسيسين غير المنتمين إلى أحزاب ولا إلى طرفي الصراع اللبناني. يقود مواقفهم ما يحلو لنا وصمه بالبراءة، وتعني بلغتنا السذاجة السياسية. لكنها السذاجة نفسها تسحب الكثير منهم إلى الشريط الحدودي في ذكرى النكبة، حيث حقوق الشعب الفلسطيني قضيتهم الاصلية، بلا كذب الشعارات الفارغة وبلا انتفاعهم منها. وهي السذاجة السياسية نفسها تجعلهم جميعاً ناشطين في تظاهرات اسقاط النظام الطائفي، وهي السذاجة التي تجعلهم يرفضون عرض تكفل قوى في 14 آذار تطبيب الجرحى منهم، وهؤلاء ليس لديهم بطاقات تأمين صحي ولا ضمان اجتماعي، وقد فضلوا جمع المال فيما بينهم على ان يحسب تحركهم على طرف ضد آخر. 
هي سذاجتهم التامة تجعلهم الاكثر استقلالاً والأقل عدداً، والاكثر حرية في الاحتجاج على القمع الدموي الذي يتعرض له السوريون في هذه الايام. 
سذج، لأنهم بلا مصلحة تربطهم بالحدث السوري إلا ذاك الانساني، ومطلب الديموقراطية إنساني طبعاً. الباقون منا يسقطون هذا الحدث على آمالهم وأحلامهم وهواجسهم ومخاوفهم، وحساباتهم. الانقسام اللبناني المذهبي حول المشهد السوري جلي بطريقة فظة، ليكون أحسن ما فيه بقاءه بارداً حتى اللحظة. 
حلفاء النظام السوري لا يعيرون بالاً لشعبه، وأخصامه ليسوا بعيدين عن اللامبالاة عينها. «حزب الله» أمام مأزق إقليمي وداخلي هائل، هو اقرب إلى مفترق طرق لا احد يدري إلى اين سيؤدي. 
غريمه، في المقابل، ليس مقنعاً حين يقرر أن الانسانية أملت عليه رفع صوته. «تيار المستقبل» بدت حساباته لا تحصى، وليست الديموقراطية للشعب السوري، أو دم هذا الشعب من أولوياته، كما ليست من اهتمامات مسيرات النصرة المذهبية شمالاً. 
ليس في الخندقين اللبنانيين من فسحة للاهتمام بالشعب نفسه. بآماله وجراحه واحزانه. هذا شعر تافه. 
الطرفان، وجمهورهما، يتعاطون مع الظرف السوري بميزان الربح والخسارة والخوف من الآتي. الخوف من المجهول السوري يجمع اللبنانيين اضافة إلى ذاك الشعور الذي يبدو عاماً بأن ما فينا يكفينا، وأننا غير معنيين ما دام الدم والفوضى خلف الحدود. 
المعنيون هم القلّة «الساذجة» التي اعتدي عليها. واذا كان كل ذنبها أنها من بضعة مسالمين ومسالمات، واذا كانت الحمرا، بما هي وجه بيروت، ضاقت إلى هذا الحد بهؤلاء السذج ما أدى إلى تحطيم عظامهم، فنحن في محنة أخلاقية تطبق أكثر من أي وقت سابق على صدر المدينة وعنقها، وتخنقها.

السابق
اندراوس: الحملة على سوليدير سياسية بامتياز
التالي
قلتَ «مشترع»؟ نوّاب للحكي والفرفشة