آثار أزمة الديون الأميركية

توجهت الأنظار الى مخاطر خفض تصنيف الدين الاميركي عوض مخاطر عجز الخزانة الاميركية عن سداد الديون، مع مشارفة مهلة رفع عتبة الدين على الانتهاء. ويتساءل كثر عن احتمالات أن يفضي خفض التصنيف هذا الى ازمة مالية. فحوادث 2008 المالية حاضرة في الذاكرة. ولكن هل وقع خفض تصنيف الدين الاميركي يماثل وقع إفلاس ليمان براذرز على الاسـواق الـمالية المحلية والعالمية؟

ويرى بعض مراقبي الاسواق أن أثر خفض التصنيف لا يعتد به. فاليابان، على سبيل المثل، خفّض تصنيفها من «آي آي آي» الى «آي آي» من غير أن تترتب عواقب وخيمة كارثية على الخفض. ويقول آخرون إن خفض التصنيف يرفع كلفة استدانة الخزانة الى أكثر من 100 بليون دولار سنوياً، ويفاقم، تالياً، العجز في الموازنة العامة.

والحق أن المحللين يفتقرون الى قواعد تحدد خطر انهيار النظام المالي أو انهيار الأسواق، ولا يسعهم توقع نتائج صدمة اقتصادية بدقة. فكل أزمة فريدة ولا نظير لها. وأثرها (الازمة) في الاسواق المالية والشركات والاقتصاد قبل انفجارها مجهول. ولكن التجارب الاخيرة قد تلقي الضوء على آثار الازمة المحتملة.

ففي 2008، انقلب عدد من الاعتقادات الراسخة رأساً على عقب. وذهبت هذه الاعتقادات الى أن أسعار المنازل في أميركا لن تنخفض؛ وتصنيف ضمانات القروض العقارية العالي، «آي آي آي»، في محله؛ واستحالة افلاس مصـرف استثـماري ضـخم ورئيـسي.

ووظف المستهلكون والمستثمرون والشركات رؤوس أموالهم استناداً اليها. وإثر ثبات بطلان الاعتقادات هذه، أصاب الاقتصاد سلسلة من الصدمات العنيفة على وقع تكيف الاسواق المالية السريع مع سلم المخاطر الجديدة. فاضطرت المصارف الى العدول عن بعض سياساتها المالية، وقلصت معدلات الاستدانة. فجمدت الشركات الاستثمارات، وأرجأتها. وقلص المستهلكون الإنفاق وبادروا الى الادخار.

فانزلق الاقتصاد الى الكساد، وفقدت ملايين الوظائف. وبلغت نسبة البطالة 10 في المئة.

ولكن هل سندات الخزانة الاميركية، وهي سند الاقتصاد العالمي، هي أدوات مالية آمنة ولا تشوبها المخاطر، على نحو ما نظر اليها طوال أعوام؟ وماذا يحدث إذا تبين خلاف ذلك وأن الادوات المالية هذه غير آمنة؟

وتساهم 4 عوامل في تقويم حجم الآثار المالية المترتبة على ثبات الطعن في حقيقة مسلّم بها مثل خلو الادوات المالية الاميركية من المخاطر، وهي:

1) مدى رسوخ الاعتقاد المالي أو الحقيقة المسلّم بها؟

ففي 2008، حسِب المستثمرون حول العالم أن المصارف الاستثمارية الاميركية الكبيرة هي «أضخم من أن تفلس»، أي ان الحكومات لن تدعها تسقط في الافلاس. وفي الاشهر الستة المفضية الى افلاس ليمان براذرز، واجه المصرف هذا أزمات في التمويل وبدأ سعر أسهمه بالانخفاض والانهيار.

فالاسواق لم تقتنع بأن الحكومة الاميركية عاقدة العزم على انقاذ المصرف هذا أو أنها قادرة على ذلك. ولو اقتنعت الاسواق بذلك، لواصلت إقراض ليمان براذرز، على ما فعلت مع «فاني ماي» و «فريدي ماك» اللذين لم يواجها صعوبات في الاستدانة قبل انقاذهما.

وطوال عقود، اعتبرت سندات الخزانة الاميركية الادوات المالية الخالية من المخاطر في الاسواق المالية العالمية. وثقة الاسواق هذه في الخزانة الاميركية تفوق ثقتها بليمان براذرز. ولذا، يرجح أن تكون الصدمة المترتبة على زعزعة الثقة في الخزانة هذه أضخم من صدمة ليمان.

2) حجم كتلة الاسهم التي تسندها الثقة في الخزانة الاميركية وغياب مخاطر سنداتها.

سندات تمويل دين الخزانة الاميركية هي أكبر سوق ضمانات في الاقتصاد العالمي والشامل، ويبلغ حجم سوقها 14 تريليون دولار، في وقت لم يتخطَ حجم سندات ليمان براذرز 600 بليون دولار. ويملك 8 آلاف مصرف في أميركا وشركات التأمين الاميركية وغيرها من الشركات وصناديق التقاعد وملايين الافراد سنداتَ الخزينة.

3) مدى مجافاة ثقة الاسواق الصواب

لا يحسب أحد أن افلاس الولايات المتحدة يترتب على تخفيض تصنيفها الائتماني.

والديون الاميركية ليست أوراقاً مالية من غير قيمة، على خلاف ديون ليمان التي ثبت أن قيمتها الفعلية ضعيــفة الــصلة بقيمتها الصورية. ولكن اهتــزازاً بسيطاً في اعتقاد راسخ قد يولد صــدمة كــبيرة تــشبه تلك الناجـمة عـن تــهافت اعتــقاد ما.

4) السياق الاقتصادي وقت الصدمة

على رغم أن الولايات المتحدة خرجت من مرحلة الكساد، وانبعث النمو الاقتصادي نمواً بطيئاً، تبلغ نسبة البطالة 9.2 في المئة. وأوروبا غارقة في أزمتها المالية، والعالم المتطور يكافح للخروج من الازمة. ويوم انهار مصرف ليمان، كانت نسبة البطالة الاميركية 6 في المئة.

والعوامل هذه توحي بأن تخفيض تصنيف الولايات المتحدة قد يطلق أزمة سيئة تشبه تلك المندلعة من رحم ازمة ليمان براذرز أو أزمة أضخم.

* مدير شركة «بيمكو» للاستثمارات والمساعد السابق لوزير الخزانة الاميركية في ولاية جورج بوش، عن «واشنطن بوست» الاميركية، 31/7/2011،

 

السابق
استياء من الحلقة الأولى من «في حضرة الغياب»
التالي
بعد مليونية الشريعة… مصر إلى أين؟