“إعـادة انتشـار” للبطريـرك المارونـي تقلـق 14 آذار

بسرعة، أخرج البطريرك الماروني بشارة الراعي بكركي من عباءة سلفه البطريرك السابق نصر الله صفير، ونجح في إعادة صياغة موقعها المسيحي وخطابها الوطني، مستندا الى خصوصية في الأداء وحيوية في الحضور، من دون إغفال أثر «الرعاية الفاتيكانية» لهذا التوجه.

وإذا كانت التوقعات الاولى التي تلت انتخاب الراعي قد بُنيت على فرضية ان قوى 14 آذار ستكون أكبر الرابحين من وصوله الى سدة البطريركية المارونية، إلا ان مسحا أوليا لمواقفه وسلوكه خلال الاشهر الاولى من عهده تُظهر بوضوح ان تلك الحسابات لم تصح، بل لعله يمكن القول ان فريق 14 آذار يشعر حاليا بخيبة أمل حقيقية وبمرارة عميقة حيال الدور الذي يؤديه البطريرك في هذه المرحلة.

ولعل ما يفاقم «الازمة الصامتة» للمعارضة مع «بكركي الجديدة» هو ان تلك المعارضة ما زالت مسكونة بطيف صفير ومقيمة في ماضيه، بحيث ان كل ما يمكن ان يقوله أو يفعله الراعي يُقارن تلقائيا بأدبيات السلف الذي تحول، بهذا المعنى، الى «أداة قياس» تُستخدم للحكم على أقوال الخلف وأفعاله.

كان يكفي ان ينقل الراعي الكنيسة المارونية من الموقع المتماهي مع قوى 14 آذار والحليف لها الى الموقع المحايد والبعيد عن الاصطفافات الداخلية، حتى يظهر حجم الفارق بين الامس واليوم، ويكتشف قدامى «قرنة شهوان» ومتخرّجوها كم تغيرت الاحوال وتبدلت الايام.

لم يعد البطريرك يمضي الكثير من وقته في الاستماع الى نصائح «الأمانة العامة»، أو رعاية اجتماعات فريق 14 آذار، مفضلا ان يستثمر زخم بدايات عهده في التجوال على المناطق اللبنانية، لتفقد الرعايا وكسر الحواجز مع بيئات جغرافية وسياسية لم يزرها بطريرك ماروني منذ زمن طويل، وربما تكون الزيارة المرتقبة للراعي الى الجنوب في أيلول المقبل هي الابلغ تعبيرا عن «استراتيجية الانفتاح» التي يتبعها.

بطبيعة الحال، ليس سهلا بالنسبة الى قوى 14 آذار ان تعتاد سريعا على بطريرك متمايز، قرر أن يرفع عباءة بكركي عنها، وهي التي كانت تؤمن لهذه القوى التغطية الضرورية والحاسمة في المحطات الصعبة، كما حصل على سبيل المثال لا الحصر، عشية الانتخابات النيابية السابقة، في حين ان أوساط مسيحيي الاكثرية الجديدة تؤكد الآن انه إذا بقيت الكنيسة على الحياد في انتخابات 2013، فإن ميشال عون وسليمان فرنجية سينتصران في الشارع المسيحي.

من هنا، بات مجرد وقوف الراعي على مسافة واحدة من الجميع يُعد خسارة للمعارضة الحالية التي تشعر بامتعاض من أدبياته المعلنة، كدعوته الى تعديل اتفاق الطائف لتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، وتجنبه الانزلاق الى السجال حول مسألة السلاح مطالبا بمناقشتها على طاولة الحوار، واستعداده لزيارة سوريا (قبل تفاقم أحداثها)، وتعامله بعقلانية مع إشكال بلدة لاسا الجبيلية بعيدا عن التعبئة الطائفية والتوظيف السياسي، وتحذيره من ان ما يجري في العالم العربي يهدف الى تفتيته خدمة لإسرائيل، وحرصه على اتخاذ موقف إيجابي حيال حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وربطه بين توقيت صدور القرار الاتهامي وعملية تشكيل الحكومة وتحذيراته المتكررة من تسييس المحكمة.

وإذا كان اللقاء الرباعي الذي رعاه الراعي مؤخرا بين القيادات المارونية المتصارعة لم يحقق نتائج سياسية عميقة، إلا ان بعض «الغمز واللمز» الذي واكب هذا اللقاء يعبر، ولو رمزياً، عن النَفَس الجديد لدى سيد بكركي. يومها، سأل البطريرك رئيس تيار المردة: كيف الصيد؟
– فرنجية: منيح
– الراعي: وأنت يا جنرال (عون).. هل تمارس هواية الصيد؟
– ميشال عون: لا
– سمير جعجع: الجنرال يصطاد بالمدفع!
– الراعي مبتسما: وأنت، من شو بتشكي؟
وبقدر ما تعكس عملية «إعادة الانتشار» التي يقوم بها الراعي حرصه الشخصي على الإمساك بالعصا من الوسط ومغادرة خندق الانحياز الى طرف على حساب آخر، فإنها في الوقت ذاته تعبر عن الرؤية الفاتيكانية التي تقارب الوضع المسيحي في لبنان من زاوية منطق السينودوس الشهير الذي دعا المسيحيين الى التفاعل مع محيطهم والانفتاح على الآخر.

وانطلاقا من هذا التحول في مسار بكركي، لا تخفي الاكثرية ارتياحها الى سلوك الراعي، في ظل وجود تقاطع موضوعي بين مقاربتها ومقاربة الراعي للتحديات التي تواجه مسيحيي لبنان وسوريا في هذه المرحلة، ويقول قيادي مسيحي في الأكثرية الجديدة ان البطريرك الماروني يدرك جيدا ما يمكن ان يلحق بالمسيحيين من ضرر إذا قامت «جمهورية العرعور» المتطرفة على أنقاض نظام بشار الاسد، وهو يدرك أيضا ان «الحريرية السياسية» هي التي أضعفت مواقع المسيحيين في السلطة وضربت مكتسباتهم لا سلاح حزب الله، مع الاشارة الى ان الراعي كان من أبرز المعارضين لنهج الرئيس رفيق الحريري، ما جعله يطلق آنذاك تحذيره الشهير من «أسلمة البلد».
 
ويلاحظ القيادي المذكور ان مسيحيي المعارضة يحاولون تحريض الراعي على الطائفة الشيعية وحزب الله، سعيا الى إيجاد فتنة شيعية – مسيحية، بعد تراجع احتمال نشوب فتنة سنية – شيعية، لافتا الانتباه الى ان طريقة تعاطي هؤلاء مع قضية الخلاف العقاري في لاسا كشفت عن هذه النيات المضمرة.

السابق
حوار الدبابات في نفق طويل
التالي
الحريري يتذكّر حماه: تصفية حساب متأخّرة