الشيطان هو الممول لنا جميعا!

 لي صديق طيب القلب.. ولكنه كتوم.. إن مشاكله كلها يخفيها في أعماقه تماما كالماء في جوف الأرض.. وهذا الماء يجري في الأعماق.. وبين الحين والحين ينفجر على هيئة نافورات.. وأحيانا يكون باردا وأحيانا ساخنا.
وصديقي هذا لم ينفجر إلا مرة أو مرتين.. ولأسباب معقولة جدا.. فزوجته عندما تدعو إلى بيته أناسا لا يعرفهم.. ويكون وجودهم مفاجأة له..لا شك أنه يثور.. وعندما تخبره زوجته في آخر لحظة أنها مدعوة إلى عشاء عند أناس تعرفهم هي.. ولا يعرفهم زوجها.. ولكن الذي جعل الماء ينفجر أخيرا ساخنا مليئا بالوحل هو أنه في يوم عاد إلى البيت فوجد أمه تبكي.. لقد حضرت الأم من بلد بعيد.. ولم تكد تصل إلى البيت حتى انسحبت الزوجة.. واخترعت أسبابا تافهة.. وتركت الأم وحدها في بيت كل حجراته مقفلة!
وهو مع ذلك إنسان طيب القلب.. تدل ملامح وجهه الدقيقة جدا على أنه عصبي وأنه ذكي.. وتدل مشيته الهادئة على أنه في حالة تربص.. وفي الحقيقة إنه هادئ جدا.. ولا يثور إلا نادرا.. وليس عصبيا وإنما يتحكم في أعصابه.. ومشيته الهادئة سببها أنه يشكو من مرض.. ولا أعتقد أن مرضه هذا قد ثقل عليه.. ولا أعتقد أن هذا المرض الثقيل قد دفعه إلى اعتزال الناس.. والفرار منهم.. ولكن لا أستبعد أن يدفعه شذوذه – كما تقول زوجته – إلى الزهد والتصوف!
ويوم قررت أن أستعرض حياتنا معا.. كيف أننا من قرية واحدة.. وكيف أننا ذهبنا إلى المدرسة معا.. وكان هو يصر دائما على ألا يشتغل في الحكومة.. وكان أمله أن يفتح دكانا لبيع الأسلحة والمواد المتفجرة!
وكنا نسخر منه.. ونتهمه بأنه مجرم حرب تحت التمرين! وكان يضحك ويقول: إنني أمثل دور الشيطان.. إنني أمثل المقاومة في كل مجتمع.. إن الدول كلها تخافني وكل العالم يتحد ضدي.. كل هذه المذاهب الدينية والأخلاقية والسياسية تختلف وتتفق ضدي.. ضد الشيطان الكائن المخيف الذي يوزع الهلاك والدمار.. فأنا مصدر الوحدة والحب والسلام.
وكان يقول: إن الشيطان هو الممول الأكبر لكل هذه الهيئات.. لولاه.. لأفلسنا جميعا!! وكان يأتي بحركات عصبية تدل على غروره وعلى استخفافه بكل الناس وكل القيم. وقد رأيت هذه الحركة يوم زواجه عندما تشاجر مع زوجته.. وعرفت فيما بعد أنه لا يأتي بهذه الحركة إلا إذا أصابه اليأس وإلا إذا بلغ به الغرور أقصى درجاته.
وعندما ذهبت إليه.. خطر لي فجأة أن هذا الهرب لا بد أن يخفي وراءه قصة غرامية.. مغامرة من نوع ما.. وتذكرت أن صاحبي هذا شكا كثيرا من زوجته.. ومن عنادها الشديد.. ومن غرورها.. فهي ترى نفسها أعقل وأجمل وأرق سيدة في الدنيا.. وأن السماء قد رضيت عنه وغضبت عليها
 

السابق
تيس نجران وشهر الرحمة
التالي
لماذا التظاهر في “الجدَيدة” و”رويساتها”؟