الدين والحياة.. والمرأة

[ 1
قارئي العزيز، أريد هذه المرة أن أمتعك وأخفف من توترك في هذا الجو الساخن والمظلم بالغبار والتقصير والقصور السياسي العربي والإسلامي.. ثم لن تلبث أن تكتشف أني متواطئ معك عليك مثيراً للمزيد من توترك الذي هو من أهم المشتركات بينك وبيني الى ما شاء الله، فاقبلني وابتسم الآن واغضب معي، لأن من استغضب ولم يغضب كان حماراً كما يقول الرسول (ص) على أن يكون غضباً لله والوطن والمواطن لا للحاكم إلا إذا كان مواطناً لا بمعنى الجنسية بل بمعنى الهوية أي شعوره بضرورة أن يكون تعريفاً للوطن والوطن تعريفاً له بالعلم والعمل، والحق والقانون والحرية والتنمية والعدل والعدالة… أي كل ما يرضي الله ورسله والأئمة والسلف والخلف الصالح.
وأنا رجل أصرّ على الاستمتاع بما أكتبه قبل الكتابة وبعدها فإذا استمتع القارئ به فإن ذلك يضاعف من شعوري بالمتعة. ولذلك وبعد سحبة طويلة من الكتابة الجادة وغير النافعة إلا في حدود قليلة جداً في المجال السياسي، تعاودني الرغبة في الاستمتاع والإمتاع والمؤانسة، فأكتب ما شاهدت أو سمعت أو قرأت من مفارقات ذات دلالة عميقة ومريحة، أو ما ارتكبت أنا من هذه المفارقات التي تأتيني من جهة البساطة واستمرار شيء من الطفولة ومن ريفيتي. وقد تأكد لي ذلك وأني لست وحيداً في هذا المجال، لاحقاً، وبعدما رويت ما حصل بي للكثيرين من كبار مواطني اللبنانيين والعرب والمسلمين، فأكملوا مفارقاتي بمفارقاتهم وأقنعوني أن الحياة أجمل من كتمان المفارقة الجميلة والبساطات المعبرة وشجعوني على تحويل مفاكهاتنا في سهراتنا الى نصوص.. وتشجعت أكثر عندما قرأت هذه الحكمة من مصمم الرقص!!! إيمانويل غات، يقول: "إن الشعور الداخلي ونظرة الآخرين أكثر فعالية وأهم من نرجسيتنا التقليدية". وها أنا أكتب شيئاً من نرجسيتي غير التقليدية التي تثقل على القلوب وتزيدها غماً وأحياناً قرفاً.
كنت في سهرة مع أحباب كبار في بغداد وتذكرنا طفولتنا وشبابنا ونضالاتنا اللازمة وغير اللازمة وسعاداتنا بها وخيباتنا من بعضها أو كثير منها، وكانت الطفولة ممتعة جداً من دون تنغيص. أما الذكريات الأخرى فقد كانت ممتعة ومؤلمة الى حد ما.. كنا في ديوان ف.ك. الحاشد دائماً بالمختلفين في ما بينهم ومعه. ومما حكيته أني في يوم العيد ذهبت الى "حرش بيروت" للعب والفرجة ووجدت هناك صديقي نديم فأخذنا صورة على آلة مصور في استديو أعطاني بطاقة عليها اسم الاستديو لأتسلم الصورة بعد يومين، فلم أصبر وذهبت في اليوم التالي فقال لي: غداً.. فعدت من غد الى المبنى العملاق. وفي الطابق الذي فيه الاستديو الفوتوغرافي رأيت باباً مفتوحاً وفي الداخل ما يشبه "الكاميرا" فدخلت، وجلست، فجاءني رجل بثياب بيض وسألني عما أريد، فقلت له "إن لي صورة أخذت لي في حرش العيد وأريد استلامها"، فقال: انتظرني قليلاً.. وعاد محركاً الآلات المعدنية التي تشبه الكاميرات ثم تقدم نحوي، فقدرت أنه يريد أن يسوي وضعي ليصوّرني (وحدي!!!) بعدما أخبرني بأن صورتي مع رفيقي قد احترقت.. وهمس في أذني: هنا لتصوير الأشعة وباب الاستديو في المقابل.. وخرجت كاسفاً.. وبعدها بأشهر كلفتني صبية بيروتية من عائلة صديقة لعائلتي أن أخابر فلاناً من الدكان في رأس الشارع وأقول له أن يحجز لها ولرفيقاتها في سينما "كايرو" على فيلم "امرأة في الطريق" خوفاً من والدها. طلبت الرقم وكلمت الرجل وأقفلت السماعة ومشيت خطوات ثم عدت، أخذت السماعة وقلت للرجل الذي خابرته (مع السلامة) فقال لي صاحب الدكان مندهشاً: ولكن التلفون مقفل!! وبقيت سنوات عندما أمر قرب الدكان أدير وجهي عنه وأسرع خطوي على الرغم من أن شكلي ولباسي قد تغيرا بحيث لم يعد الرجل يعرفني.. الى أن توفي رحمه الله. تأسفت لوفاته ولكني شعرت بشيء يشبه الراحة.
[ 2
وحكى بعض الجلساء عن براءتهم وبساطتهم الريفية في المدينة أو المدنية التي تأتي من فوارق طبقية وجماعات كبيرة مهمشة في الأطراف أو الشوارع الخلفية التي ما زالت تزداد عدداً وفقراً على الرغم من كل الوعود الثورية. ولن أذكر من مشاركاتهم التي ضحكنا لها كثيراً، إلا مفارقة التقينا فيها فانفجرنا ضحكاً ودهشة بما يصعب وصفه.. قلت: كنت في بغداد في أوائل السبعينات نازلاً في فندق شعبي في "السنك" شهريار- ولي صديق سياسي معروف ينزل في فندق بغداد ضيفاً رسمياً، فدعاني إليه، فتناولنا العشاء وسهرنا.. وسألني إن كنت أحمل قنينة عطر.. وكنت أحملها لأول مرة في حياتي، صغيرة في جيب جبتي الواسع جداً.. تعطر الرجل وتواعدنا على الغداء معه في فندقه.. وجئته بعد الصلاة وتغدينا معاً وطلب مني قارورة العطر ليتعطر، ولكنه قلبها كثيراً ثم أحمرّ وجهه وانفجر ضاحكاً، لافتاً نظر جميع من في القاعة.. وقال: هذا عطر نسائي!!! لقد جعلتني ليلتي السابقة في شوق غريب الى زوجتي!!!..
وبعد ربع قرن من هذه الحادثة كنت في منزلي أجلس الى سيدة شديد الاحترام لها لعلمها ولنبل أسرتها الصديقة.. وما لبثت أن دخلت على قرينتي مندهشاً على زعل وقلت لها: تعرفين كم أحترم هذه السيدة، ولا أعترض على استخدامها للعطر النسائي (تكرماً مني وقتها!) ولكنها تكاد تكون وكأنها قد غطست في بركة من العطر حتى زكمتني! وردّت زوجتي مادة يديها الى وجهها لتخمشه، متسائلة: هي التي وضعت عطراً نسائياً أم أنت؟ واعترفت بأني تناولت العطر من بين خصوصياتها. ضحك الجميع في مرآتنا السابقة ولكن صديق الجميع أتحفنا بما هو أشد جاذبية وسحراً، قال: وصدقت زوجته الصابرة، بأنه تعوّد على استخدام نوع من العطر كان يطلب منها أن تأتيه به وهي تظن أنه يهديه الى إحدى السيدات من دون أن تسيء الظن، ومرة كان في سفر فدخل محلاً لبيع العطور وطلب عدة قارورات من هذا العطر، فسأله البائع إن كان يريد عطراً له أو لسيدة أو أكثر، فقال بأنه يريد عطراً رجالياً، فقال البائع ولكن العطر الذي طلبته نسائي. وتذكر أن بعضاً من أصدقائه كانوا يشكون اليه من غضب نسائهم عند انتباههن الى رائحة العطر على ثياب الأزواج المخدوعين بما فعلته أيدي الصديق وقلة خبرتهم. وانقلبنا على ظهورنا ضحكاً ما شجعني الى الرواية بأن صديقاً من أعزّ الناس عليّ وعلى عائلتي من رجال الدين جاءنا يوماً زائراً، فوجدت زوجتي تلطم وتبربر وهو أمامها صامت.. ولم يلبث أن انفجر معترضاَ قائلاً: ومن هو المرجع واجب الطاعة الذي قال هذا الثوب مناسب لهذا وذاك غير مناسب؟ وكذا الألوان؟ وكذا الطراز (الموديل)!! كان يرتدي جبة نيلية على بنطال أصفر فوسفوري وحذاء أبيض وقميص بيضاء مدورة الياقة ومعرّقة برسوم زهور بلون وردي (بنّاتية).. ولم يغير من عادته هذه إلا بعد سنوات.. عندما أدركه الحب من جديد وهو أب!! كأني أقول بأن الحب أو المرأة هي موحية وتُلزم بالتجمل لأنها جميلة؟ بلى.. والى ذلك فإننا في تعاطينا معها لا نكاد نستثني فرصة لتهميشها ليبقى تهميشها سبباً ودليلاً على هامشيتنا التي لا يقلل منها تفاخرنا بالإسلام الذي لم ننجزه بل نحن نستهلكه.. حتى أصبح هناك وظيفة للرجل لا تحق للمرأة ولا تصح منها حتى لو كانت أكفأ أو أصلح. والتدقيق في شرعنا يوصل من يريد الى اليقين بأنه ما من وظيفة ممنوعة على المرأة خاصة مع تغيّر شروط الحياة والمعرفة ومعايير الأهلية.. والمنع تاريخي فات موضوعه فلا بد أن يلحق به الحكم إلا في الأمور شديدة الخصوصية خاصة بعدما أصبح شأن الدولة قائماً على المؤسسة من الرئاسة الى القضاء.. هذا علماً بأن الغرب الذي لم يقصر، ثم صحح وعوض، في تهميش المرأة، لم يكن يستند الى شرع أو قانون في الإلغاء أو التهميش، بل هي الذكورية إذن ولا شيء غيرها.. وهذه ليست دعوة الى أنثوية متطرفة وقاتلة.. لأن المسألة ليست ثأرية..
وفي مقام العمل.. في الحقل مثلاً.. كانت أمهاتنا معاً مع آبائنا في الحقل.. يجمعهم الإنتاج والأرض.. ويتبادلون الملابس والعطر البسيط والتعب الجامع الجميل ورائحة التراب وعرق الكادحين. ومن هنا لم يلاحظ أحد من أهل طبقتي أني على مدى سنوات كنت أرتدي (تي شرت) بنّاتي أبيض قصير الكمّ مفتوح الصدر كثيراً أتاني به عمي من بالة ثياب مستعملة وصلت الى مرفأ بيروت لتباع للفقراء فأعطي العمال بعضاً منها.
[ 3
صراحة.. كنت أغص في موقفي المفتعل من المرأة، من أمي التي تفضلني جهاداً وصبراً على المرض والفقر وحباً للآخرين، ومن شقيقتي التي لم تقصر في شيء ومن زوجتي التي لولاها لم يكن لي بيت.. أو بيت جميل.. ولم ينجح أولادي في المدرسة، ولم أستمر في القراءة، والكتابة والسفر طلباً للمعرفة واستمراراً للنضال، ولم أستطع أن أتعامل مع مشكلات الأولاد والأحفاد والوالدين وقد فقدت لغة الحوار معهم جميعاً فتولت عني ذلك حتى في ما يخصني من مسائل، فضلاً عن مشاكلهم العلمية والعملية والحياتية والصحية إلخ.. الى كرمها غير المشروط باليسر والذي كان يخيفني ثم أصبح بإصرارها يطمئنني ويثير غبطتي وأحياناً غيرتي، الى دورها المكمل لدوري بكفاءة عالية في حل المشكلات العائلية التي تعرض على رجل الدين، والتي أحياناً تبادر الى حلها وحدها من دون العودة إليّ، ما جعلني ألجأ إليها وأناديها لحضور مجالس النقاش في هذه الأمور وفي الأمور العامة، وفي السياسة والحرب والحب وفلسطين ورسالة لبنان وهموم العراق والحرية والديموقراطية والعدالة وميدان التحرير.. مع الأصدقاء والباحثين والباحثات والصحافيين والصحافيات والسياسيين والسياسيات يساريين ويمنيين ودينيين وعلمانيين ووطنيين وطائفيين.. عراقيين ومصريين وفلسطينيين وغيرهم. ومسلمين ومسيحيين.. مع براعة في التدخل جعلتني أجاهر بالموافقة والالتزام برأيها أمام الجميع الذين كانوا يتعجبون ثم صاروا يُعجبون.. هذا وقد اضطربت علاقتي بملابسي وألوانها عندما ملّت وحاولتُ أنا الممانعة بداعي المكايدة قبيل وبعد الستين.. هذا الى أني لا أتقن التعبير عن الحب إلا من بعيد، ولا أستطيع أن أتخلص من جفافي وكأني صديق خارجي يستحي أن يتغزل بصديقته حتى لا تظن به سوءاً. ولكنها لا تظن بي سوءاً على قلة إظهار حناني وعندما أذكر لها أنها وحيدتي تغضب لأنها من الذكاء بحيث لا ينطلي عليها التناقض.
قياساً على من عرفتهن من السيدات المبدعات والكثيرات جداً واللائي تكاد تكون نسبتهن بين النساء أعلى من نسبة الرجال المبدعين بين الرجال.. أقول كفانا الله وكفاكم شر المكابرة التي تزيد التسرب من الدين وتوكد الفساد والتخلف والاستبداد بترجيح الذكورية البيولوجية على الأنثوية الحضارية.. ودعوا المرأة الكفية علمياً وعقلياً وأخلاقياً تتولى الكثير من شؤوننا الحساسة في المجال الاجتماعي والتربوي والتنموي وأنا كفيل بالسلامة، لأنها سوف تكون حريصة على الوطن والدولة والنظام العام ومطالب الناس التي تشعر بها الأم قبل غيرها في زمن السلم والحرب معاً. ومع الحرب والإرهاب أكثر وتعرف أكثر معنى السلام الاجتماعي الذي يتأسس عليه الأمن والأمان.. وتعرف معنى المشاركة وهي حريصة على المال العام والصحة العامة والكهرباء والماء حرصها على بيتها وأسرتها ومالها أو مال زوجها أو أولادها وهي تزين الحرص بالكرم لا بالفساد والإسراف والتبذير وشراء الضمير.. بالكرم المالي والمعنوي.. ثقوا بها وخذوا منها ثقة أكبر لتعود فتعلمكن بعدما تعلمت منكم من صوابكم وخطأكم من دون عقد ومن دون بداوة في الحضر !
وهنا عندي سؤال: لماذا لا نرى ولا نسمع المشايخ يعظون أو يرّهبون بل يرضون ويفرحون للسيدات والفتيات السافرات أو قليلات الستر عندما يحضرن في المناسبات الدينية السياسية أو السياسة الدينية وهنّ حاسرات مطمئنات !!
ويحتفون المشايخ – بالسيدات من أسر حلفائهم من كل العقائد الفكرية والسياسية حتى الإلحادية المجاهرة من دون توقف عند صلاح أو فساد أو ستر أو كشف ولا يجد المشايخ غضاضة في دعم أنصارهم غير الملتزمين دينياً ومادياً ومعنوياً.
لماذا يغضون النظر في منازل الأغنياء ولا يتسلطون إلا على نساء وبنات الفقراء؟ ولماذا لا يقيمون اعتباراً للحرية وللدواخل النفسية والخبرات الخاصة في المجال الديني؟ ولماذا لا ينتبهون الى أن كثيرين يكتشفون التناقضات فيتحولون باندفاع رهيب من التدين الى الفجور؟ ولماذا يسكتون إن لم يشاركوا في أذية متدينين ومتدينات كثر لأسباب سياسية وهتكهم أحياناً؟ لماذا ينادون بحب الثقافة والحرية ويكرهون المثقفين الأحرار؟

السابق
هل علينا أن ننزل عن الشجرة قبل أيلول ؟
التالي
مزارع لاسا