حوار..؟!

.. ثمّ هي فعلاً غريبة تلك الدعوة المكرّرة إلى استئناف الحوار الوطني. بقدر غرابة نفي النظرية القائلة بأنّ ألف ساعة حوار أفضل من لحظة مواجهة تامّة!
تتناقض الثانية مع الأولى نظرياً لكنها تتمّمها فعلياً. وفي ذلك من حيث المبدأ، أنّ الحكي يتم في الأزمات لمنع تفاقمها أو انفجارها، أو لإقفال أبواب تفلّتها باتجاهات لا تسرّ الخاطر ولا تفيد أحداً. أو أنّه على مستوى "أرقى"، يتم بين متحاربين أنهوا حربهم المسلّحة وقرّروا استئنافها بالتفاوض بدلاً من المدافع والرصاص.
 
في ذلك المبدأ، انّ الوسيلة التفاوضية تأتي لتجلس في مقام كريم وجليل طالما أنّها بديل راقٍ من إسالة الدم واستدرار النزاعات والكيد والاحتراب. هي كذلك نظرياً. لكنها فعلياً، كما فعلت في لبنان، قد تحمل بذور شرور أكبر من تلك الكامنة في الانقطاع والنبذ.
 
لا يستقيم حوار إذا كانت أهداف بعض المتحاورين هي المناورة وشراء الوقت واعتماد البلف بنداً رئيسياً في جدول أعمال مثقل بالنيّات الداشرات في سهول المشاريع الخاصّة، والإصرار على تنفيذها أيّاً كانت الأثمان! ولا يستقيم حوار إذا قرّر طرف من اثنين الدخول إليه شكلاً والبقاء خارجه مضموناً! وإذا قرر مسبقاً، وبوعي تام يوازي تماهيه مع خواصه وسلاحه وشعاراته وأدبيّاته وحزبه ومشروعه، انّ هدفه "إقناع" الآخرين بتلك الخواص من خلال الحكي معهم وإلا لكلٍّ طريقه!
 
ما شهدناه وعشناه في الجولات السابقة لا يؤكد إلاّ تلك الخلاصات والافتراضات الكئيبة: فريق الممانعة والمناتعة حاسم في قراره وبيانه. لا جولة ولا اثنتين ولا عشرة ولا ألف جولة حوار، ولا طاولة ولا اثنتين ولا عشرة، بل ولا معمل خشب يمكن أن يدفعه إلى نقطة وسط هي معنى التسوية الكريمة المبتغاة من التحاور!
 
هو رابض، بارِك، مقيم عند ذاته وذواته وحاله وسلاحه ومشروعه وانقلابه وحكومته إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً! وما على الآخرين إلاّ خيار من إثنين: إمّا الإذعان أو الصمت. إمّا الولوج في الحالة الممانِعة والركون عندها، وإما "الاستئناف" في السياسة والإعلام والشارع.. ولا يهم طالما أنّ قراءته المبتورة للتاريخ الحديث آتية من قراءته الخاصة لتاريخ ماضٍ قديم، فيه بالنسبة إليه، ما يكفي من مبرّرات لمشروعه الراهن! كما لا يهم، إن ذهبت دنيا اليوم إلى أقسى نقطة ممكنة، حيث النزال والنزاع والخصام والحروب، المهم بالنسبة إليه أنّ مشروعه قائم ويمشي في الأرض مختالاً معانداً!
 
غريب منطق الإلغاء والإقصاء في بحثه عن حوار، أو عن براءة ذمّة! حوار بالقوّة! يتمّم المفهوم الممانع (والوسطي حديثاً) لمعنى التسوية الوحيد: الاستسلام والإذعان!
.. في سوريا السلطة تحاور حواشيها وهوامشها. وفي إيران لا تحاور إلا نفسها وتجبر أخصامها على الإقامة في بيوتهم والصمت.. عندنا مطلوب أن يغطّي الحوار انقلاباً شارعياً وصل إلى الشرعية!؟.. دعوة غريبة، طالما أننا ما زلنا هنا في لبنان، لا في سوريا ولا في إيران!

السابق
الكونغرس الأميركي يصعّد في وجه حكومة لبنان
التالي
جاء زمن “الطاشناق”: الأرمن يحبون الدولة والخدمات