ماذا يخسر حزب الله؟

الأزمة السياسية المحتدمة في لبنان ليست جديدة.. إنها مزمنة، إلا أن مظهرها الأكثر وضوحا هو الشراسة الكلامية التي كادت تؤدي إلى تشابك بالأيدي في مجلس النواب اللبناني الأسبوع الماضي.. هذه الشراسة مستمرة في الإعلام أيضا، وهي تنبئ باحتمالات عديدة، وقد تتطور إلى ما لا تحمد عقباه.

إلا أن السؤال الذي تتوجب الإجابة عنه: ترى ماذا يخسر حزب الله في كل ذلك؟

الحقائق على الأرض تقول إن المحكمة الدولية قد قررت أن بعض المنتمين لحزب الله قد نفذوا اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري منذ ست سنوات مضت، هذا لا يزال اتهاما تم التوصل إليه بعد تحقيق معمق استمر كل هذه السنوات الماضية. حزب الله استعد لهذه اللحظة منذ أشهر، فأحدث هو وحلفاؤه انقلابا ديمقراطيا تحت ذرائع مختلفة للإتيان بحكومة غير معادية من وجهة نظره، هي حكومة لبنان الحالية التي لها أكثر من تسمية في نظر مخالفيها. البعض يصفها بأنها حكومة نجيب ميقاتي الذي خرج عن الصف، وآخرون يسمونها حكومة حزب الله، والتي حصلت على ثقة بأصوات قليلة جدا كي تدير لبنان أو تدير الأزمة في لبنان إن استطاعت.

المعركة سوف تنتقل إلى الشارع وإلى الإعلام، وعلى الرغم من تأكيد الأطراف المختلفة أن هذه اللغة السياسية الخشنة جدا لن تتحول إلى صراع سياسي في الشارع اللبناني، فإن هذه التأكيدات من باب رفع العتب كما يراها كثيرون، فلبنان مرشح بقوة للدخول في صراع داخلي مرير. من قتل الحريري السني ربما أيضا قتل عددا من السياسيين والصحافيين والناشطين، جميعهم من دون استثناء من الصف المعارض لتوجهات حزب الله. وبالتالي فإن حديث حزب الله عن المقاومة، وأن السلاح عنده موجه للعدو، لم يعد يقنع كثيرين داخل وخارج لبنان، بعد أن استخدم هذا السلاح للقتل في الداخل أو التهديد بالاجتياح.

إلا أن بيت القصيد هو أن حزب الله ومشروعه المقاوم، إن صحت النوايا، قد خسر خسارة كبيرة وهي المساندة الشعبية الواسعة التي يتطلبها أي تنظيم مقاوم لأي احتلال أو شبه احتلال حتى يعيش ويتنفس داخل بوتقة غير معادية. حقيقة الأمر أن كل الحركات المقاومة والنضالية كان لا بد لها أن تذوب في شعب واسع، إن أرادت أن تحقق النجاح. حزب الله حتى حرب 2006 كان يمكن له أن يدّعي أنه مغطى ولو نسبيا، بشعب كامل هو الشعب اللبناني بكل طوائفه، ومساند من قبل شرائح واسعة في أقطار عربية كثيرة، بل إن حكومة فؤاد السنيورة وقتها قدمت له أفضل ما يمكن من تغطية شعبية، ولا يزال بعضنا يتذكر الجهد الذي بذله السنيورة وحكومته دوليا وعلى النطاق المحلي، إلى حد بكاء الرجل الكبير في عدد من المحافل، وهو يرى لبنان يدك بالطائرات الإسرائيلية، التي لم يكن لها رادع، ولو بشيء من الانتقائية.. وقتها كان الهجوم جويا، إلا أن لبنان كان ينزف على أكثر من صعيد.. ووقتها كان الاتهام في مقتل الحريري تكهنات لم تصل إلى الحقائق.

اليوم اختلف المشهد، فأي اعتداء إسرائيلي على لبنان، كما ذكرت مجلة «نيوستيتمنت» البريطانية هذا الأسبوع، لن يكون انتقائيا، بل سيكون مدمرا على جميع الأصعدة، في الوقت الذي يفقد فيه حزب الله الغطاء المعنوي الشعبي الواسع بسبب موقفه المتعنت من تحقيق العدالة. فهناك شرائح في لبنان وخارجه من العرب ترى أن تعنت حزب الله في السير باتجاه الشفافية المطلوبة للنأي بنفسه كتنظيم عن ذلك الاتهام، والإصرار على العكس على حماية المنفذين أو حتى الآن المتهمين، يعني ضلوعه في العديد من الجرائم التي طالت عددا من الشخصيات، سواء أدت إلى مقتلها مثل رفيق الحريري وجبران توني وغيرهما من الضحايا، أو من سلم منها مشوها مثل مروان حمادة ومي شدياق.

وعلى ذمة «نيوستيتمنت» البريطانية، فإن المجلة نشرت موضوعا مطولا عن «ضرب النار المرة القادمة»، توقعت فيه أن تقوم حرب بين إسرائيل وحزب الله تكلف أكثر مما كلفته حرب 2006 (في تلك الحرب قتل من اللبنانيين 1100 إنسان، وتكلف لبنان 3 بلايين إسترليني).. ففي المرة القادمة، إن حدثت الحرب، فإن التكلفة ستكون أعلى بكثير بشريا وماديا، بجانب انسحاب كثير من الغطاء الشعبي الداخلي.

الإشكالية التي تواجه المراقب العربي المتابع، أن إسرائيل منذ حرب 2006 التي واجهتها في البداية بشيء من عدم الجدية، أخذت من الدروس ما يكفيها لمواجهة ثانية، كونها تستطيع أن تنقد مؤسساتها بشفافية وتستخلص الدروس. لقد استُحدثت بعد تلك الحرب لجان تقصي حقائق، وكُتبت كتب تبين أوجه القصور، من بينها كتاب اموس هاريل الذي كتب مقالة «نيوستيتمنت» المشار إليها. في الجانب الآخر بدا أن حزب الله فرط في صفوف مؤيديه من خارج محازبيه، واختار أن يفقد السند الداخلي وهو أخطر ما يمكن أن يفعله تنظيم مقاوم، لأنه بذلك يفتح الباب واسعا لاستهدافه من دون سند شعبي واسع.. كما انتشى كثيرا بـ«نصر إلهي» لم يثبت من خلال دراسة مستقلة

، ولم تحدد له مفاهيم أو حدود غير الرغبة في أنه انتصار.. بجانب ذلك فإن السند السوري في أسوأ أوقاته اليوم. غارة إسرائيل في 6 سبتمبر (أيلول) 2007 على منشأة دير الزور، هي واحدة من النتائج التي خرجت بها إسرائيل من دروس حرب 2006، وهي أن القاعدة الرئيسية لحزب الله في سوريا، وأن أي مواجهة له في المستقبل يجب أن تتضمن سوريا في الحسبان وربما حتى إيران، حيث تعتقد المصادر الإسرائيلية أن الكلمة النهائية في شن الحرب، ومتى يستخدم حزب الله صواريخه، هي في طهران وليست في أي مكان آخر
.
من الأوفق لحزب الله الابتعاد اليوم عن أن يأخذ نفسه بعزة الإثم وينساق في معاداة جزء كبير من الداخل اللبناني كما يغامر بفقد تعاطف شرائح واسعة من العرب خارج لبنان.. إضافة إلى أن قاعدته المساندة العربية في العمق السوري تتعرض إلى الاضطراب.. من الأوفق له أن ينظر بعقلانية إلى النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني ويحاول جاهدا رأب الصدع الذي حدث، عن طريق تخفيف التعنت تجاه قرارات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. الحل السياسي هو أفضل الحلول المتاحة أمامه، فالتعنت الدائم والحلول الأمنية تفقده أهم ميزة لأي جماعة مقاومة وهي المياه التي تسبح فيها.
آخر الكلام:

صديق قابلته في إحدى العواصم الأوروبية كان قد قرر هو وعائلته التصييف في لبنان، لكنه غادره باكرا، قلت متعجبا: لماذا تركت؟.. قال وهو يبتسم «عندما علمنا أن السيد حسن نصر الله يريد إلقاء خطاب له قررنا أن نرحل عن لبنان».. عنده حق، وهكذا يعمل الاحتقان السياسي في لبنان كعامل طرد ممتاز!!

السابق
الحوار السوري: في المنهج
التالي
النهار: الحكومة تنطلق بتعيينات وتطويع وتصريف ولبنان يبرز اعتراضه على الحدود البحرية