آثـار عـدوان تمـوز ما زالـت موجودة في النفسيات

في العام 2007، أي بعد مرور عام واحد على حرب تموز، رصدت دراسة أكاديمية مدى انتشار الاضطرابات النفسية التي تلي الصدمات، المعروفة علميا بمرض اضــطراب الكــرب الــتالي للرضــح،
(Post –traumatic stress disorder)، وسجلت درجة نسبتها 17,8 في المئة، وبلغ معدّل انتشار مرض الاكتئاب نسبة 14,7 في المئة.. علماً أن الدراسة التي أجراها فريق عمل في «الجامعة الأميركية في بيروت»، شملت 991 شخصاً، في عشر بلدات جنوبية.

أما في العامين 2005 و2006، أي في الفترة التي تلت الانسحاب الإسرائيلي وسبقت الحرب الإسرائيلية، فقد سجّل فريق العمل ذاته، في دراسة إحصائية، انتشاراً لاضطراب ما بعد الصدمة تتراوح نسبته ما بين 17,6 و33,3 في المئة، وتراوحت نسبة الاكتئاب ما بين 9,2 في المئة و19,7 في المئة. وقد شملت العينة 625 شخصاً، في ست بلدات جنوبية.
تشكّل تلك الأرقام أبرز نتائج الدراستين العلميتين التي أجرتهما الاختصاصية في الصحة النفسية في «الأميركية» البرفسورة ليلى فرهود، وفريق عملها، حول نسب انتشار اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب في جنوب لبنان.

وبحسب فرهود، تعتبر تلك النسب مرتفعة بالمقارنة مع المعدّلات العالمية، وتدلّ على فداحة الآثار النفسيّة السلبية التي سببتها الحروب والانتهاكات الإسرائيلية. لكنها، في المقابل، تتوقف عند الانخفاض الذي مسّ معدّل انتشار إضطراب ما بعد الصدمة، إثر حرب تموز، بالمقارنة مع الأعوام التي تلت زوال الاحتلال. وترد الانخفاض إلى «شعور الأفراد في القرى الجنوبية بالانتصار على العدوّ الإسرائيلي».
ما هو «الكرب التالي للرضح»؟

ينتج اضطراب الكرب التالي للرضح، أو اضطراب ما بعد الصدمة، عن تعرّض الفرد لصدمة نفسيّة أو ماديّة. ومن الشائع أن يعاني منه الجنود أو ضحايا الاختطاف والتعذيب والكوارث وأسرى الحرب. وترتكز أعراض الاضطراب على الشعور بالقلق، والاسترجاع الذهني للأحداث على شكل كوابيس ليلية، ويتسبب بصعوبات في النوم وفرط في اليقظة، وتجنّب الحديث عن الأشياء أو الظروف المرتبطة بالصدمة.
ويعتبر الأفراد الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، أكثر عرضة للإدمان على التدخين والكحول، ويمارسون الرياضة بشكلّ أقلّ، ويعانون من الاكتئاب.

وفي العينة اللبنانية، تلحظ فرهود أن اضطراب ما بعد الصدمة ترافق مع ظهور أعراض جسدية غير مبررة طبياً، يشار إليها بأعراض الجسدنة أو «Somatization".. علماً أن نسبة ستين في المئة من الأفراد الذين أظهروا علامات اضطراب ما بعد الصدمة، عانوا من مرض الاكتئاب. يذكر أنّ التعرّض لصدمات الحروب والاحتلال، بشكل عام، يترافق مع ظهور أعراض القلق، والأرق، ومشاكل صحيّة لا تبرّرها الفحوصات الطبيّة، والانعزال الاجتماعي، ومرض الاكتئاب.

الجنوب أشد تأثراً
من… أفغانستان
في نيـــسان مـــن العـــام الجـاري، نشــرت المــجلة العالميـــة
«Social psychiatry and psychiatric epidemiology" دراسة حول معدّل انتشار اضطراب ما بعد الصدمة والكآبة، في جنوبي لبنان، بعد مرور خمس سنوات على زوال الاحتلال الإسرائيلي، وأشرفت عليها فرهود.
وتراوحت معدّلات انتشار اضطراب ما بعد الصدمة بين 17,6 و33,3 في المئة، ونسبة انتشار مرض الاكتئاب 9،2 بين و19,7 في المئة وهي معدلات مرتفعة بالمقارنة مع المعدل الوسطي لانتشار اضطراب ما بعد الصدمة الذي يجب ألا يتخطى نسبة العشرة في المئة، بالمقارنة مع الأرقام التي سجلت في العام 2004 في البلدان التي شهدت حروباً، كشرقي افغانستان (20,4 في المئة) وكوسوفو (23,5 في المئة)، وصولا إلى الدول التي تنعم بلاسلام كالسويد (5,6 في المئة) أو أستراليا (1,3 في المئة).

وسجّل «مؤشّر استبيان الصحة العامة» الذي يكشف عن الاضطرابات النفسية والمعتمد عالمياً، رقماً مرتفعاً (6,7) بالمقارنة مع المعدّل الوسطي (5). وأظهرت النتائج أنّ نسبة ثمانية في المئة من الأفراد الذين شاركوا في الدراسة، يتناولون الأدوية المهدئة للأعصاب، وأن نسبة لا تتخطى 9,7 في المئة من العيّنة تلقّت علاجاً نفسيّاً. وتـــرجع فرهود أســــباب ارتفاع تلك النسب إلى الظروف والمخاطر التي تعرّض لهـــا الجنوبيون في أثناء الاحتلال الإسرائيلي، وإلى كـــون «مآسي الاحتلال لا تنطوي بين ليلة وضحاها بل يعاني منها الضحايا على فترة طويلة من الزمن».

نسبة الانتشار بين النساء مضاعفة
من خلال التعمّق بتحليل البيانات، تؤكّد فرهود أن اضطراب ما بعد الصدمة، سجّل انتشاراً أوسع بين النساء، والمتزوجين، والعاطلين عن العمل، والفئة الأقلّ تعلّماً، والأفراد الذين لا يمارسون الرياضة، والمدخّنين، والأفراد الذين يتناولون الأدوية المهدئة للأعصاب، والذين يتلقّون دعماً اجتماعياً أقلّ، والذين يعانون من مشاكل ماديّة، والذين تعرّضوا لحوادث مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، كالخـطف أو التعذيب أو القصف.

وتندرج تلك النتائج ضمن نتائج الدراسات العالمية التي تفيد بأن النساء، والفئات الأقلّ تعلّماً والأصغر سناً، وذوي الأولاد، هم أكثر عرضة للإصابة باضطراب نفسي ما بعد الصدمة.
وتوضّح فرهود بأنّ انتشار اضطراب ما بعد الصدمة سجّل بين النساء نسبة تفوق بسبعة أضعاف ما سجل بين الرجال، «بسبب التركيبة الفيزيولوجية للمرأة والمسؤوليات العائلية التي تتحمّلها».

تجدر الإشارة إلى أن النتائج جاءت متشابهة بين البلدات الجنوبية الست، وشكّل الدعم الاجتماعي فيها العامل الرئيسي في الحماية من الاضطرابات النفسيّة. وبالتالي، ومن خلال النتائج التي توصلت إليها، توصي فرهود بضرورة إنشاء مراكز متخصصة في العلاج النفسي في البلدات الجنوبية، لتأمين الرعاية الصحية والنفسية للأفراد الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة أو من مرض الاكتئاب.

السابق
الإيطالية وتدريب على مكافحة الحرائق
التالي
صابونجيان:سنعتمد الكفاءة في التعيينات