سمير جعجع حبيس الماضي

لا ترغب القوات اللبنانية في نبش القبور، وهو أمر مفهوم تماماً. يستشهد قائد هذه القوات دائماً بالنضالات والتضحيات التي بذلتها القوات، وبعدد الشهداء، علماً بأن أكبر عدد من القتلى سقط في صفوف «القوات» جرّاء اقتتال أقسامها بعضها مع بعض، أو في معارك مع الجيش اللبناني.

ولكن يجب أن نقتنع دائماً بما يمليه علينا القائد من أنها حركة مقاومة سياسية من أجل الشرعية في لبنان.

بكثير من الموسيقى والأغاني الوطنية التي يمكنها أن تسبب وقوف الشعر في الجسم، تؤكد أجهزة إعلام «القوات» شعارات فارغة من أي مضمون إذا أُخذت بمعانيها العامة: الديموقراطية، والمقاومة اللبنانية، والحرية، وتحول تاريخي، ومستقبل، ومجد لبنان، والمسيحيون في المنطقة. ولكن، في العمق، في كل مرة يطلق قائد «القوات» نفيراً، يكون يعدّ لموت المزيد من المسيحيين وخسارتهم لما بقي لديهم من حصص في التوزيع الطائفي للسلطات اللبنانية.

في النهاية، ربط جعجع نفسه بمركب الحريرية السياسية، وليته فعل ذلك حين كان رفيق الحريري يمسك بتلابيب البلاد، لهان الأمر وكبرت الجائزة. وما دامت «القوات» ليست أكثر من بندقية للإيجار، كان بالإمكان تأجيرها للحريري الأب بدل تركها بانتظار أفشل من أنجبته هذه العائلة الحاكمة. ولكن، ولأن سمير جعجع لا يحسن الحساب، فوّت كل الفرص للمشاركة في السلطة، وانتظر وصول الفتات.

طبعاً لا يلام قائد «القوات»، فهو في النهاية نسق كامل من مسيرة هذه الميليشيا التي تحار كيف يمكنها التحول من الجريمة السياسية المنظمة إلى الدخول في الحياة السياسية الإجرامية، من جرائم القتل إلى جرائم النهب: حاولت التسول في السعودية، النتيجة مُرضية ولكن غير كافية، يمكن أنطون زهرا أن يزايد على سمير هنا ويخبره بأنّ ما كان يجنيه على حاجز البربارة يفوق ما تدفعه المملكة السعودية.

الاستعطاء من فؤاد السنيورة ووزراء المال من المال العام؟ ثمة ما ينقص هنا. فالعديد من كوادر القوات يفضّلون تجارات أخرى على الاستعطاء. في النهاية، هم خارجون من مناقبية معهد غوسطا لإعادة التأهيل، حيث كانوا يقتلون رفاقهم المشكوك في ولائهم للحكيم ويرمون بجثثهم في البحر بعد تثقيلها بالأسمنت.

إنشاء حزب سياسي؟ ربما، ولكن على قاعدة موافقة الجميع على كل ما يقوله القائد، والجهوزية الدائمة للعودة إلى السلاح والشعارات القديمة: «حروب الآخرين على أرضنا» وعلاجها قتل كل الآخرين، والشكل الأفضل هو صبرا وشاتيلا، «توحيد البندقية» وعلاجه استخدام السلاح لتوحيده، وله أشكال عدة، الصفرا، حرب الإلغاء إلخ.

يحار قائد القوات في كيفية العودة إلى تلك المرحلة. يستقبل السفراء الأميركيّين على نحو متواصل، وعند كلّ مناسبة يتطوّع لوضع المسيحيّين بين أيديهم، المطلوب سلاح، فقط سلاح، ويمكن سميراً أن يتنازل في مطالبه، فيطالب بالذخائر، إمداد بحري بالذخائر يمكن أن يكون كافياً. فلدى سمير خمسة آلاف عسكري جاهزون للقتال، ولديه عدد مشابه يمكن تطويعه بسرعة (هكذا قال بحسب وثائق ويكيليكس التي ثبّتها هو). لا تسل من أين أتى بهم، وأين دربهم، وكيف أعاد تأهيلهم، ومن أين أنفق عليهم، وكيف ضمن أنهم موالون بالكامل وغير مخترقين.

ولكن الزمن الغدار سمح للأميركيين بالاستخفاف بمطالبه. لو كان الإسرائيليون في حالة أفضل، لأمكنه أن يعود إلى المجلس الحربي، وأن يوزع رفاقه، أنطوان إلى البربارة مجدداً، وإدي إلى المدارس لإقناع الأطفال بالقتال وارتداء الكاكي، وإيلي للجبايات، وغسان للمروحيات. وطبعاً يجب البحث عن بعض الشباب، أين أصبح ماد ماكس؟ يجب تكليفه بالعماد عون مجدداً.

القوات وقائدها لا يحبّان نبش القبور، بل فقط حفرها.

السابق
بين إلغاء الطائفية والسلاح في التبانة وجبل محسن..
التالي
السفير: لخلطة السحرية للمحكمة على نار الاتهامي