أين تلك الكورة الخضراء؟

الكورة الخضراء، بدورها، أذهلتني وأحزنتني وفتحت الذاكرة على ذلك الزمن الذي كانت خلاله لا تختلف عن خليّة النحل، حتى قيل فيها إنها مرآة الشمال وشهادة تميّزه.

فمن أين استقطبت كل هذا الذبول، وكل هذه التجاعيد، وكل هذا الانطفاء الذي لا يختلف عن الامحاء؟

يا الله. أفرك عيني بقوة. أغيّر وقفتي…
فأين تلك الكورة التي تغنّى بها الشعراء والعشاق، وقصدها كبار الكتّاب والروائيين والمفكرين، محاولين اكتشاف سرّها الذي جعلها منطقة لا تعرف الأميّة حتى قبل الحربين العالميتين؟

كأنها هاجرت، وهاجر معها البهاء والجمال، وهاجرت حتى عصافيرها التي ألهم شدوها الحنون فؤاد سليمان وعبدالله قبرصي والياس زخريا قصائد حبّ وعشق ما بقيت وسادة صبي او صبيّة إلا وغلّت تحتها.

لا شيء من تلك الكورة، ولا من أولئك الكورانيين، ولا من تلك الحقبة، ولا من كل ما شكّل هذه الفرادة لمنطقة قدّمت العلم على كل همّ آخر، وحافظت على استقامتها وتقاليدها حتى اليوم.

أتمتّع وأنا أعود بذاكرتي وذكرياتي الى تلك المنطقة التي تحوّلت لعقود طويلة ساحة صراع عقائدي فكري أدبي حزبي، لا يختلف في نشاطه المتواصل عن خلية نحل نشيطة تقودها ملكة من قرطاجة.

أحزاب على حيلها. حزبيّون لا ينامون. احتفالات ومهرجانات خطابية لا تنقطع. وهذا الاقبال على المطالعة والقراءة والمعرفة: مكتبات خاصة وعامة. كتب عقائدية وحزبية. صحف من كل الألوان.
نادراً ما خلت قرية صغيرة من مكتبة "وكشك" خاص بالصحف والمجلات اليومية والاسبوعية والفصلية، محلية وعربية ودولية…

نادراً ما مرّ يوم أحد من دون ندوة تناقش رواية، أو ديوان شعر.
وجميعهم. كلهم يأتون. ويشتركون. ويناقشون: قوميون، شيوعيون، بعثيون، كتائبيون… وبكل موضوعية.

حتى جدّتي لأمي، حبوبة، التي استظهرت "مجافي الأدب" للأب لويس شيخو كانت قد فتحت "صالوناً أدبياً" يؤمه شهرياً كبار من أدباء الشمال وعلمائه والمقدّمين.
يا الله، ما الذي جرى حتى تغيّر كل ما كان، وكأنه لم يكن.
غيّبتني الظروف القاهرة والحروب القذرة عن كورتي التي أعترف أن قلبي العاشق لا يزال يخفق حين أمرّ بها حتى اليوم.

ولما عدت إليها بوَلَهٍ جامحٍ، وبرغبة في استعادة ذلك الزمان الجميل وتلك الايام التي لا يحدّها جمال مهما تأنّق، اكتشفت انني قد ضللت الطريق، وتهت عن هاتيك الكورة.

بل أمام كورة أخرى: لا مكتبات، ولا اندية، ولا صالات ولا ندوات، ولا حتى مكان لبيع الصحف. ولا حتى مَن يقرأ صحيفة. ولا حتى أولئك الفتيات يتمخطرن بدلال في انتظار عشاقٍ يطلون فجأة، وتشتبك النظرات بالكلمات.

لم يبقَ من الكورة الخضراء سوى منطقة شبه معزولة يجتمع شملها لتقترع لنواب لا يمثّلونها، كل أربع سنوات.
واحرّ قلباه، أهذه هي الكورة؟
  

السابق
الجمهورية: الجلسة الأولى: لجنة لـبيان وزاريّ مقتضب و14 آذار: الأسد عجّل التأليف لكسب حليف
التالي
التقنية وحدها لا تصنع ثورة