“البابلية” في الهوى والتاريخ: سريانية أم عراقية؟

كثيرة هي المصادر والمراجع التي أصرت على إعادة نسـب أبناء الجنوب اللبناني إلى جذر أعلى، ونسـب غابر، ارتبط بقبيلة «عاملة» التي، فيما روي، إسـتقـرّت في هذه المناطق، ومنحتها الاسـم، الذي أطلق على مجموع الهـضاب المنتشرة في المنطقة الجغرافية التي اصطلح على تسميتها بـ «الجنوب» اعتماداً على الجهة التي تشير – من طرف – إلى المركز الإداري بيروت، و«الجنوب» اصطلاح شاع وانتشر في مرحلة لا تتعدى إعلان استقلال لبنان بزمن بعيد.

وكنت حتى وقت قريب تسأل الجنوبي عن انتمائه فيجيبك: أنا عاملي، أو من جبل عامل…

على أنّ قريتنا البابلية، وهي التي تقوم على تخوم الجنوب، أعني التماس مع جبل عامل في المكان والزمان والتاريخ والعلاقات والعادات، قد انصهرت في أتونه، وهي في موقعها الجغرافي أقرب إلى البحر (الصرفند: من أقدم المدن الساحلية) وقريبة من المدن (صيدا وصور)، وبالتالي فهي ليست من القرى الداخلية المنغلقة على ذاتها، ولا شك في أنها كانت مكان عبور وحركة وعدم استقرار أو ثبات إلى زمن ليس بالمغرق في القدم… وقد أظهرت إحدى الخرائط الجغرافية التي تعود إلى عام 1862 اسم البابلية لاحظة لها مساحة واسعة، وربطتها بمصطلح إقليم الشومر وبلاد الشقيف. والإقليم ذاك تظهره تلك الخارطة على شكل مثلث رأسه قلعة شقيف أرنون والنبطية وقاعدته تستغرق البابلية حتى قرية المطرية، أو مطرية الشومر،.. وقد أشار المؤرخ السيد حسن الأمين في كتابه "قلعة الشقيف"، ذاكراً أنّ حيدر الفارس ـــ وهو من الأسرة الصعبية – دفن في البابلية، وحملت شواهد قبره وحجارة المدفن من قلعة الشقيف (تلك التي كانت في حوزة الأسرة الصعبيّة).

وهكذا، نرى أن اسم القرية – بابلية – يحملنا على أوجه متقلبة ومختلفة، وأحياناً فإن قاعدة الانتماء بالهوى تشفع بأن تثبت على جهة الرغبة، وقد يكون في ذلك بعد عن دقة الحقائق والوقائع، إذ لا يخلو أثرٌ بَحَثَ في التاريخ القديم أوالحديث من ذكر كلمة «بابل»… وبابل تلك – وهي على ما هي من شهرة – في بلاد الرافدين، من التراث الحضاري الذي امتزج بالأشورية والسومرية، وهي التي زودت العالم القديم بلغتها «الأكّـاديّة». وبابل اليوم مساحات من المدائن المخربة والآثار التالفة، في منبسطات ممتدة وتلال وادعة غنية بالمراعي والمياه، إلى الجنوب من بغدا. ويرفد هذا الوصف بعض ما ينسب من حكايات وأساطير إلى «سميراميس البابلية»، التي كانت أمينة على المراعي في تلك الأمكنة، وإليها ينسب بعض ما يروى من قصص وأساطير الرعاة وحنينهم الذي سال – أول ما سال – أنغاماً من شبابات ارتعت قصباً ندياً في بلاد ما بين النهرين.

وما تنفك المأثورات الدينية والبشرية تردد لفظ «بابل»، أرض السحر، والساحرات البابليات، ولم تنفك عقدة السحر عن بابل والبابليات رغم أن الأساطير والحكايات تقول بأن سحر هاروت وماروت قد حبس أو دفن في إحدى آبار بابل، وعبثاً يبحث الباحثون… خارج «بئر أبو قشاش» أو «بئر منيفة» أو «بئر زينب»…

كما أن الشعر الجاهلي لم يستطع أن يتجاهل الخمرة البابلية، ما يعيدنا إلى أن الاسم، «بابلية»، هو اسم منسوب، والنسب أو النسبة صفة في الاسم. ومن معاني الإسم: بابل تعني الصوف، وفي هذه إشارة إلى أرض الشاء والنِّعَمْ ومنبسطات الرَعي… وتعني السمّ، وبابل أرض الفرقة والضِّياع.

ومن المأثورات الشعبية القديمة التي قاربت هذا المعنى:

«درب البابلية يا ريتكْ سايبْ

يللي فرّقتْ شمْل الحبايبْ»

وقد يعرف الواحد بصفته، كأن نقول: بيروتي، دمشقي وهذه الياء التي تلحق بالاسم: (بيروت ـــ دمشق ـــ مع «ي») تجعله منسوباً، والنسبة، إضافة إلى كونها صفة، تربط بالنسب والمشابهة بين شيء وآخر، بل إنها تُعرِّفه وتُعرَف به حين تنسبه أو حين تُشبِّهه بالآخر.

وبابلية تصبح معرفة حين ننسبها إلى «بابل»، وهي صفة تربط الجزء إلى الكل، وبهذا الكل تُعرَف، وبخاصة إذا صح – على حد علمنا – أنه ليس في لبنان من قرية أخرى تحمل هذا الاسم، وبذلك تصبح العلمية راسخة في النسبة، وبالتالي يمكن لهذا الاسم العلم أن يقبل الإضافة ليُعَرَّف بها كما ليُعَرِّف بها دون غيرها، ويتضح القول من خلال الإضافة: بابلية المنبسطات، بابلية الزرع، بابلية اللغط، بابلية الخراب (باعتبار الصفة وانطباقها على ما يروى عن قريتنا قبل أن يعمرها الذين حلوا واستقروا فيها منذ زمن(…).

وقد لا نحتاج مع النسبة ويائها هذه الملحقة بكلمة «بابل» إلى «أل» التعريف، و«أل» التعريف تلك، التي يصّح ضمّها إلى صدارة الكلمة النكرة لتعريفها تتحول مع الاسـم «بابلية» إلى «ال» العهدية، وهي التعيينية، وكأنما نقول: ما عهدنا ولا عرفنا غيرها بهذا الاسم…. وهكذا، فإننا بإدخال «ال» التعريف على هذا الاسم زدنا في حصر التعيين وأكدنا أن ليس هناك من بابلية أخرى، منسـوبة إلى «بابل» العراق.

وإذا كنا نأخذ بهذا التفسير أو ذاك فإنه لا يجعلنا ننكر أو نجانب ما كتبه «كبارنا» الذين غرقوا في جذور هذا الوطن (لبنان) محاولين أن يجعلوا فيه جذراً وإرثاً مشتركاً بين اللبنانين، من خلال ميلهم إلى تفسير الكثير من أسماء القرى والمناطق اعتماداً على اللغة السريانية الداثرة، ولقد بالغوا أحياناً، إن لم نقل جانبوا الحقائق في بعض ذلك، ولكنْ سعياً منهم إلى هدف نبيل هو توحيد وتعميق الانتماء إلى هذا الوطن.

ولقد جاء في آثارهم أن «البابلية» تعني «بوّابة الله»، وليس في ذلك ما يجافي الحقائق في تاريخ هذا الوطن… فالقرى بما أنبتت وأعطت، ومسـايل المياه والينابيع بما أهلت من وجوه الحياة… تغدو كلها بوابات إلى الله عزّ وجلّ.

وليس بخافٍ على الدارسين أن العربية قد ورثت – فيما ورثت – اللغة السريانية والآرامية، وكثيراً ما اندمجت هذه اللغات في بعض ألفاظها، حتى تعذّر على المتخصصين أحيانا الفصل في نسب كلمة ما، وتحديد هويتها الأولى. وهذا ما جعلنا نغلب الجذر العراقـي (العربي) للاسم الذي لا يمكن أن يكون قد انتقل مصادفة إلى هذه المنطقة، ولا يمكن أن يكون صحناً طائراً قد حطّ في تلك الآونة في هذه البقعة المتسعة، الكثيرة المنبسطات والمراعي، والتي تتماثل مع «بابل» العراقية في الاتساع والهضاب والمنبسطات، ولا بد أن يكون الذين حلّوا في ظهرانينا عرباً أقحاحاً، أورثونا، فيما ورثنا عنهم، لغتهم التي رحنا نسمي بها ينابيعنا وسواقينا والنباتات، فباتت تحمل اسماءً عربية صافية اللفظ والحرف والمعنى، مثل: عين العصفور، بركة الزرقاء، بركة الغزلان، المغار، جران العميقة، سواقي الضبع، مرج القنّار، البتّوتّ، الشاوية…

ولا يكافئ تلك الأسماء ما يمكن أن نلحظه – فيما لو أمعنا النظر – من أسماء القرى وأسماء الحقول والأماكن المختلفة والمحيطة بها في غير قرية من قرى لبنان.

السابق
المنار يدخل المنافسة الدرامية الرمضانية بمسلسل «الغالبون
التالي
القوة الكورية نظمت دورة كرة القدم