أحمر شفاه

تجلس على الكرسي. ترنو إلى وجهها البادي أمامها في المرآة. تجول بنظرها على ما عندها من أدوات التبرّج. لا يلبث أن يتملكها الحزن. تمسك بأحمر الشفاه ثم تضعه لتتناول آخر. فقد ضاع غطاؤه حتى انكشف أحمره للهواء طويلاً فتقدد. لا تملك غيرهما قلمين للشفاه، إضافة إلى علبة بودرة، وزجاجة عطر صغيرة أهداها إياها العجوز صاحب الدكان المجاور. كان يبتسم لها بمكر: "هيا..! خذيها. لا تخجلي. ها قد كبرت يا صغيرة. خذيها وعندما تأتين للشراء في المرة القادمة لا تنسي أن تعطّري التفاحتين".

أومأت برأسها ثم أخذت قنينة العطر ومضت من دون أن تفكر ماذا كان يقصد بالتفاحتين.
فتحت قلم الشفاه الآخر. مرّرته على شفتها السفلى قبل أن تتوقف فجأة. ذلك أن لونه زهري فاقع. وهي لن تستطيع الخروج وشفتاها فاقعتا اللون، إذ ستكون عرضة للمعاكسة من شبان الحيّ الذين يسمعونها الكلام البذيء. سيتغامزون ويتّهمونها بالبغاء.

صحيح أنها تسكن ووالدها جليس الكرسي المدولب بيتاً ارضياً بغرفة ومطبخ وحمام، وتعمل في تنظيف البيوت، لكنها لم تنجرّ إلى البغاء. حتى إن ربّ المنزل الذي عملت فيه، رغّبها ذات مرّة بضعفي ما تتقاضاه لقاء مداومتها على ممارسة الجنس معه.
بادرته برفض قاطع وغادرت إلى غير رجعة.
مقتنعة بأنها ما زالت بعيدة عن التفكير بالجنس، وهي لحظة ما تفكر فيه لن يكون إلا مع من تحبّ وبعد أن يتزوجا. كما أن الشاب الذي تحبّه منذ كانا صغيرين، لم يأت على ذكر الجنس مرّة. ورغم خروجهما المتكرر لم يحدث أن قبّلها.
لكنه كان يتحين أحياناً سواد الصمت في أثناء جلوسهما، فيخطف بوسة على وجنتها حتى يتورّد وجهاهما خجلاً.

لم تتبرج بما عندها إذاً. اكتفت برشّ القليل من العطر على وجهها وعنقها، ثم ذهبت للقائه. اعتادا اللقاء في المكان نفسه. لا يستطيعان أصلاً أن يتفقا على مكان آخر قد يكون مكلفاً. يجلسان على المقعد الإسمنتي قبالة البحر. يشتري لها أصبعاً من الذرة المشوية فيتقاسمانه. ثم يتمشيان وهما يتبادلان الأحاديث نفسها. "عندما أعثر على عمل سأدخر نصف الراتب". "سنستأجر بيتاً بثلاث غرف ليقيم والدك معنا". "سننجب الكثير من الأولاد". لكنها، كما في كل مرّة، تبدي اعتراضها على فكرة الإنجاب الكثير قائلة: "ولدان يكفيان، هكذا نستطيع أن نربيهما ونعلمهما".
لكن لقاءهما اليوم كان غيره. كاد قلبها، لشدة اشتياقها، أن يطير فرحاً. لم يفارق ناظريها وهو يعرّج ناحيتها. صحيح أنها حفظت ملابسه الوحيدة، من البنطال القماشي الأسود والقميص الأزرق بياقته الكحليّة، إضافة إلى حذائه الأبيض، لكنها شعرت كأنه يلبس ثيابا جديدة. انتصبا واقفين وهما يبتسمان ملء فمويهما إلى أن دعاها للجلوس.
"هل صحيح أنك عثرت على عمل؟"، سألته بلهفة.
هزّ برأسه مؤكداً. كانت عيناه تطفحان بالسرور. "وقت قليل وسنتزوج. آآآآه كم أحبك". قال لها.

"… وأنا أيضاً"، قالت قبل أن تهمّ بطبع قبلة طويلة على خدّه.
اشترى هذه المرّة إصبعين من الذرة المشويّة بدلاً من واحد، احتفالاً بعثوره على عمل. لم يكن بمقدوره أن يحتفل بالطريقة التي يحتفل بها بعضهم على الجانب الآخر من الشارع. سيارات فارهة فشل مراراً في حفظ أسمائها، يهرع صبية بزيّ موحدّ ويقفون هناك لركنها. أثواب ومعاطف براقة، تلمع عند تعرضها للضوء وهي تدخل الملهى. صودف مرتين، كانت إحداهما في رأس السنة، أن امضيا الليل هناك، بالقرب من البحر، حيث انطلقت المفرقعات من المكان نفسه مع حلول العام الجديد. كانا ينظران مشدوهين إلى الأشكال المضيئة التي اكتسحت عتمة السماء.

"يجب أن تشتري بنطالاً وقميصاً إضافيين"، قالت.

"بالطبع، هكذا أستطيع أن اغسل بنطالاً وقميصاً، وألبس آخرَين"، أجاب وحبات الذرة تنهرس تحت أضراسه.
دسّ يده في جيب بنطاله ثم التفت إليها: "انظري إليّ. رغم أن شفتيك ورديتان، وهما ليستا بحاجة إلى أحمر شفاه، ابتعت لك أحمر الشفاه هذا، بعدما أخبرتني بأن الذي عندك تقدد. عندما نتزوج ستطلين به شفتيك كل يوم. سأقبلهما كثيراً. هيا بنا. تأخر الوقت".

فيما كان ممسكاً بيدها وهما يقطعان الشارع، كانت إحدى السيارات الفارهة قرب الملهى والتي لم يحفظ اسمها تخرج مسرعة… لم تسعفه الثواني في الهروب من اجتياح السيارة لجسده.
… تجلس على الكرسي. ترنو إلى وجهها البادي أمامها في المرآة. تمسك بأحمر الشفاه الوحيد ثم تطلي به شفتيها. والعجوز صاحب الدكان المجاور ما زال يبتسم لها بمكر: "لا تنسي أن تعطّري التفاحتين".

السابق
الانوار: محاولة تحريك عملية التشكيل بعد تعطل الجلسة النيابية
التالي
المنار يدخل المنافسة الدرامية الرمضانية بمسلسل «الغالبون