لبنان وسوريا.. طائف وطوائف

«المتشائم يتشكى من الرياح، والمتفائل يقنع نفسه بأنها ستمر بسرعة، أما الواقعي فيهتم بأمر الأشرعة».
(ويليام آرثر وارد)

يتساءل بعض المتابعين عن سبب تواضع مستوى ردود فعل الإدارة الأميركية وبطئها إزاء قمع الانتفاضة الشعبية على امتداد الأراضي السورية، على الأقل، بالمقارنة مع رد فعلها الحازم إزاء ال
نظام المصري السابق. وهذا، مع أن فترة القمع في سوريا أطول، وحجم الضحايا أكبر، وأسلوب التصدي للمظاهرات أفظع، والنهج الإعلامي الإنكاري والتخويني أشد صلفا ومكابرة.
بخلاف التعامل مع النظام المصري السابق، المرتبط بعلاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والمستسلم بصورة شبه مطلقة لسياسات واشنطن في الشرق الأوسط، اختارت واشنطن حتى اللحظة الإبقاء على شعرة معاوية مع نظام الرئيس بشار الأسد، مع أنها دأبت منذ سنين على تصنيفه من الأنظمة شبه المارقة.. القريبة من دعم الإرهاب!

واليوم، على الرغم من تجاوز عدد ضحايا القمع الدموي في سوريا رقم 1200 قتيل، ناهيك من الألوف المؤلفة من الموقوفين والمعتقلين، تخرج واشنطن بالفرصة تلو الفرصة والتلميح تلو التلميح.. مما يكاد يوحي بأن المسألة كلها مسألة «رفع عتب» لا أكثر. وإذا صح هذا التصور، ولعله صحيح، فقد يكون السبب أن تل أبيب لم تتخذ بعد القرار الحاسم بسحب «مباركتها» لبقاء النظام.

هنا من المفيد جدا تذكر رغبة إسرائيل المزمنة بالمحافظة على الـ«ستاتوس كو» مع نظام دمشق، والاستفادة منه كـ«فزاعة» ابتزازية.. تخدم استراتيجية الهروب من استحقاقات السلام، وتدعم حاجة إسرائيل للمحافظة على تفوقها العسكري ورفضها الانسحاب من الأراضي المحتلة بذريعة وجود «تحالف معادٍ» يشكله محور طهران – دمشق.

أكثر من هذا، ينبغي ملاحظة أن استمرار النظام في دمشق يضرب عصفورا ثانيا بالحجر نفسه.. إذ إنه، بحكم ذهنيته وتركيبته وممارساته، يخدم غاية إسرائيل في مفاقمة الاحتقان والاستقطاب الفئويين في المنطقة المحيطة بها.
ولندع شعارات العلمانية الجوفاء جانبا، وننظر إلى الواقع على الأرض.

إننا نرى، أولا، شارعا فئويا وطائفيا محتقنا يمتد من القامشلي إلى اللاذقية إلى درعا، وما بينها في الداخل السوري، ما عاد يجد أمامه سبيلا للتظاهر إلا من المساجد.. وأيام الجمعة بالذات. وهذا يعني أن النظام «العلماني» لا يتيح للمواطن الاعتراض والتظاهر في الساحات والأماكن العامة، كحال مصر واليمن مثلا، بل يدفعه دفعا إلى تدثر عباءة الدين والاحتماء به.

ثانيا، اتهمت السلطة عبر إعلامها الرسمي وشبه الرسمي و«محلليها السياسيين المستقلين» (!) جماعات دينية أصولية، بأنها ضالعة في مؤامرة ضد «الممانعة» و«المقاومة» تخدم أهداف أميركا وإسرائيل، مع أن السلطة نفسها رعت، ولا تزال ترعى، هيمنة جماعات متشددة دينيا على كل من لبنان وقطاع غزة. فالرئيس السابق الراحل حافظ الأسد الذي احتضن ودعم إنشاء إيران حزب الله في لبنان رفض إنشاء تنظيم مماثل داخل سوريا. وأما الفكر الأصولي السني الذي تمثله جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس والجهاد الإسلامي، فممنوع داخل سوريا، لكنه مدعوم منها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتقيم قياداته الفلسطينية في قلب دمشق.

ومن فلسطين، لا بد من الانتقال إلى لبنان، الذي يتقاسم مثل سوريا خط حدود مع إسرائيل.
هنا يتأكد بمرور كل يوم تآكل مؤسسات الدولة اللبنانية أمام «غول» الطائفية الذي كبر واستشرس أكثر في ظل 30 سنة من الوجود العسكري – الأمني السوري، بدلا من أن يخمد ويذوي. وبعدما، أفلح اللبنانيون، بدعم عربي ودولي بالتوصل إلى «اتفاق الطائف» الذي أنهى نحو 15 سنة من الحرب الأهلية والإقليمية التي راح ضحيتها نحو 150 ألف قتيل، ها هي الأطراف اللبنانية تريد الانقلاب عليه، في ظل التحريض الإقليمي، والعودة إلى الوراء 35 سنة بدلا من تعلم دروس الحرب والاتعاظ منها.
بالأمس فجر البطريرك الماروني الجديد بشارة بطرس الراعي ما يشبه القنبلة السياسية عندما اعتبر أن «اتفاق الطائف» ليس منزلا، وارتأى إعادة النظر فيه، مما استدعى ردودا سلبية متوقعة من عدد من الأفرقاء اللبنانيين من مختلف الطوائف.
لماذا قال البطريرك الراعي ما قاله، مع أن «اتفاق الطائف» ما كان ليكون لولا تأييد سلفه البطريرك نصر الله بطرس صفير له، مع فريق غير قليل من المسيحيين؟ وهل البطريرك الراعي، المشهود له بحسه السياسي القوي، وفهمه العميق لتعقيدات الوضع اللبناني، وإدراكه هشاشة الواقع الديموغرافي المسيحي، مقتنع حقا بأن ثمة بدائل أفضل للمسيحيين – والموارنة تحديدا – من هذا الاتفاق الذي كفل لهم المناصفة في كل شيء.. نصا لا عرفا؟
أغلب الظن أن البطريرك يعرف تماما ماذا يريد. وعلى رأس ما يريده «استيعاب» النهج الانتحاري المسيحي الذي تمثله ظاهرة ميشال عون، أسوأ ظاهرة في تاريخ لبنان السياسي المعاصر، تمهيدا لترويضها وضبطها. ففي ظل احتفاظ عون – المدعوم مباشرة من محور طهران – دمشق_  بنسبة لا بأس بها في الشارع المسيحي، وجد البطريرك أن الخيار الأمثل هو سحب البساط من تحت «الحالة العونية».. والذهاب أبعد منها في طمأنة المسيحيين الذين لا يزالون يراهنون على «حكمة» مشروع «تحالف الأقليات».

طبعا، البطريرك الراعي يدرك سلفا أن الامتيازات والصلاحيات الفئوية في بلد تعددي كلبنان – تماما مثل الاستقلال – تؤخذ ولا تعطى. وبالتالي، فهو لم يكن يتوقع رد فعل إيجابيا على مقولته، حتى من القيادات الدينية اللبنانية التي تقاطرت قبل فترة قصيرة للاجتماع عنده في الصرح البطريركي في بكركي. غير أن خطر التلاشي المسيحي يقلق الراعي، حقا، كما يقلق أي مسيحي عاقل يرى نذر الخطر ويسعى إلى التحسب لها، في منطقة تعيش مرحلة مفصلية من تاريخها. ومن هذه الزاوية، يستحسن التركيز على أفعال البطريرك أكثر من كلماته، ولعل الاجتماع الكبير للقيادات المارونية الذي دعا إليه مؤخرا يوضح أنه يريد أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وإبلاغهم أن بكركي ستلعب من الآن فصاعدا دورا سياسيا أكبر وأنشط، ولن تدع مزايدات المغامرين تهدد مصير الجماعة الدينية التي طالما اعتبرت نفسها محورا للبنان مستقل.

في المقابل، كان لافتا بين المواقف المتحفظة على ما قيل عن «الطائف» كلام السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله.. ومحتضن «الحالة العونية». وفي هذا الكلام رسالة إلى من يخدعون أنفسهم، ويتوهمون أنهم قادرون على البت والفصل، في حين أنهم مجرد أدوات تعتمَد إلى حين أن تنتفي الحاجة إليها.
إنها رسالة يجب أن يفهمها الصغير والكبير.. في لبنان، وأيضا في سوريا

السابق
سقوط النظام لا يعني قيام الدولة
التالي
حزب الـله والقرار الاتّهامي من الهجوم إلى الاستيعاب