سقوط النظام لا يعني قيام الدولة

ليست هي المرة الأولى التي تسقط فيها «الدولة» في لبنان، وتتقاسم إداراتها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية «قوى الأمر الواقع» باسم حقوق الطوائف والمذاهب وتتناهب مواردها من دون أن يتأثر «النظام» المحصّن بالدول ـ عربية وأجنبية ـ التي تتولى حمايته عبر «علاقاتها التاريخية» الخاصة والمميزة بما درجت العادة على تسميته بمكوّناته الخاصة السابقة على قيام الدول…

لكن سقوط «الدولة»، هذه المرة، يأتي في لحظة تاريخية فريدة في بابها: فليس بين الدول العربية مجتمعة دولة واحدة قادرة ومؤهلة على حماية ذاتها من مخاطر الانهيار والتفكّك والتبعثر شظايا قبلية أو طائفية، فأنّى لها أن تحمي غيرها، خصوصاً أنها جميعها تدرك أن «النظام» في لبنان «مدوّل» أصلاً، وله في من ابتدعه وجعله نموذجاً فريداً في بابه، من يحميه من خارجه كما عبر القوى المستفيدة منه، مادياً ومعنوياً، والتي تحفظه لأنه مصدر نفوذها وهيمنتها في الداخل.
إن الدول العربية، عموماً، تعيش حالة اضطراب غير مسبوقة، يستوي في ذلك تلك التي نجحت الانتفاضة الشعبية في إسقاط النظام فيها، أو تلك التي كانت الانتفاضة (أو أن ضعفها صيّرها) مدخلاً إلى استدراج التدخل الأجنبي وجرى «قبوله» و«تشريعه» عربياً، كما في حالة ليبيا، بذريعة أنه أقل إضراراً بالبلاد وطموح شعبها إلى الحرية من حكم الطغيان الذي كان قد سبق إلى تحطيم «الدولة».

وفي ما يعني لبنان، فإن الأزمة المتفاقمة دموية وخطورة في سوريا تجعل أي توقع لدور سوري مؤثر في تسريع تشكيل الحكومة كتأكيد لوجود الدولة ضرباً من الخيال.
وإلى ما قبل شهور قليلة كانت بيروت السياسية قد استعادت «التقليد التاريخي» بتوقع أن تتولى دمشق، بتفويض عربي ودولي، معالجة «التفاصيل اللبنانية»… وهو تفويض كان يبدو وكأن واشنطن قد أقرّت تجديده، وكان منطقياً أن تعتمده الرياض معها.
اليوم تتصرف أطراف سياسية لبنانية عديدة وكأنها قد «تحرّرت» من قيود الالتزام بما تقرّره سوريا، بل هي تذهب إلى الجهر «بمواقف غير ودية» كانت تتحاشى سابقاً أن تعلنها إن هي لم تبادر إلى رفضها بتجديد الولاء لدمشق، مستندة إلى غضب الرياض من إسقاط حكومة الحريري، من خارج التفاهم معها، بل وعلى حسابه.

ذلك أن إضعاف النظام في سوريا يستتبع ـ في نظر قوى سياسية لبنانية ـ سحب تفويضه الدولي برعاية الشأن اللبناني، ممّا يفاقم أزمته في دمشق ويترك لبنان للريح الدولية… مع إعادة شيء من الاعتبار لدول النفط العربي بالقيادة السعودية، التي لا تملك مشروعاً للدولة في لبنان، لا سيما أن بلدانها تقوم أنظمتها الملكية خارج الأطر المعروفة للدولة.

ربما لهذا يفترض كثيرون أن لبنان سيظل بلا دولة، وبلا حكم، حتى تستقر الأوضاع في سوريا، فيستعيد نظامها زمام المبادرة بالإصلاح الذي تأخر كثيراً ويخشى أن تكون الأحداث قد تجاوزته، أو يضطر إلى تقديم تنازلات مؤلمة في دمشق ذاتها لا في بيروت.
هذا يعني أن «الدولة» ستظل في إجازة، لبنانياً، حتى تستتب الأوضاع في دمشق، تاركاً المجال واسعاً أمام الافتراض أن النظام فيه أقوى من النظام فيها، بسبب من ضماناته الدولية التي لا تقيم اعتباراً لدولته، بينما الدولة شرط حياة في سوريا.
نعود إلى حديث الانتفاضات العربية التي يتابع الرعايا اللبنانيون مشاهدها بكثير من الحسرة لأنهم يدركون أن لا مجال لمثلها في ظل النظام الطوائفي لاغي الشعب في هذا الوطن الصغير والجميل.
÷ ها هي الانتفاضة المجيدة في مصر تحاول استنقاذ أعرق دولة في هذا الشرق، وربما في العالم كله من براثن النظام الذي نجحت في إسقاطه، لكنها تحتاج إلى زمن طويل وجهود خرافية لإعادة بناء «الدولة» التي لا يستطيع «الميدان» إنجازها، أقله فوراً… وهذه لحظة مؤاتية تماماً للخارج، دولياً وعربياً تابعاً، ليتقدم للمساعدة بشروطه، متنصلاً من «أبوته» لذلك النظام الذي عاش أطول ممّا يجب وممّا يجوز، بعدما حرّر نفسه من بديهيات واجبه في حماية «الدولة الوطنية»، فاستغنى بنفسه عنها (وعن الشعب؟!) وعن مؤسساتها الشرعية إلا كمجمع لأختام الموافقة على ما يقرّره.

÷ وإذا كان الجيش في مصر قد حمى كيان الدولة، فإن الأمر في تونس مختلف وها هو شباب الانتفاضة التي خلعت الطاغية زين العابدين بن علي يناضل من أجل استنقاذ الدولة من فوضى الخلاف إلى حد الضياع بين القوى التي شاركت منذ البداية، أو التحقت بعد تردد، أو عادت من المنافي في الخارج، والتي تحتاج إلى جهود هائلة للتوحد حول مفهوم الدولة التي تريد، وقدرتها على إنجاز بنائها بالقدرات الذاتية… في حين تتوالى الإغراءات الدولية، على شكل وعود بالمليارات إذا ما أعيد ترميم الدولة القديمة بحجارة الانتفاضة ـ الوعد بغد أفضل.

÷ طبعاً لا يمكن الحديث عن ثورة في ليبيا يصنعها حلف الأطلسي بطائراته الحربية وحواماته وأساطيله البحرية التي تكاد تمحو وجوه العمران في تلك البلاد التي فوّض «قائدها» إلى نفسه صلاحيات الخالق…
أين الخيار في هذه الحالة، وأين الدولة التي يمكن أن يبنيها المستعمر الجديد المتنكّر بثياب محرّر الليبيين من الطغيان… خصوصاً أن القذافي نفسه كان يعتبر «الدولة» بدعة. وهكذا لم يتمكّن الليبيون من التعرّف عليها، لا في العهد الملكي حيث كان يتوزع البلاد ثلاثة مستعمرين دفعة واحدة، قبل أن ينضم إليهم الأميركي فيوحّدهم فيه وعبره.

.. ولسوف يتم تحرير ليبيا من نظام القذافي. ولكن ليبيا ستعود إلى أبشع ممّا كانت عليه: إذ ستكون في ظل استعمار جديد تمننها قيادته كل يوم بأنها حرّرتها ليس من القذافي فحسب، بل كذلك من لعنة النفط ومفاسده، ومن هموم التفكير بدولة الغد وأعبائه الثقيلة…

÷ أما الجزائر ففي حالة اضطراب تشغل قيادتها بنفسها وهموم الخلافة وهكذا فإنها تلغي تماماً مشروع الدور الذي كان مقدراً لها أن تلعبه ذات يوم… ففي عصر الانتفاضات النبيه هو من يحفظ رأسه، ولو على حساب دولته. وكما في أقطار عربية أخرى فإن النظام أقوى من الدولة، بل هو القوي وهي الضعيفة حتى الغياب.
÷ في المشرق يتبدى المشهد مأساوياً بما يتجاوز عبقرية كل من أرّخ لعصور الانحطاط بكل ما حفلت به من صراع داخل القصور، واستعانة بالعدو على الأخ الشقيق، ورهن البلاد لإرادة الأجنبي مقابل بقاء العرش وضمان استمرار العائلة الحاكمة ولو على نصف مساحة البلاد كما النموذج السوداني!

÷ في العراق لا دولة في المستقبل القريب، ويمكن النظام الطوائفي الذي أقيم تحت رعاية الاحتلال الأميركي أن يستمر «حاكماً» في بلاد مشطرة بحسب الجهات الأصلية وتوزع العناصر والطوائف والمذاهب فوق أرضها: لا هي موحّدة، ولا الانفصال وقع فعلاً وإن كان قد اتخذ صيغة الأقاليم التي لها سلطات أقوى من حكم الدول المركزية المهددة بالتفجّر كل صباح.

÷ وأما في اليمن فقد أوصل حكم الفرد فيه إلى تفسّخ البلاد جهات، وعودة «الشعب» إلى واقعه القبلي السابق على الدولة، ثم إن القبيلة ذاتها قد جرى تشطيرها بحيث إن قيادتها التاريخية قد حاولت أن تستعيد سلطاتها باغتيال الرئيس المنشق وأهل نظامه قصفاً للمسجد الذي كانوا يصلّون فيه الجمعة.

وليس مبكراً أن ننعى مشروع الدولة في اليمن الذي عطّله النظام الذي اختصر السلطة في شخص «الرئيس» الذي كثيراً ما استعاد في ممارساته دور «الإمام ـ أمير المؤمنين»، معتمداً الجيش بديلاً من القبيلة فانتهى الأمر بأن انتصرت القبيلة مجدداً، وانفتح الباب أمام «الدول» للعودة… بل إن هذه العودة تكاد تغدو مطلباً شعبياً ملحاً لوقف المذبحة المتعددة الجبهات!

ومن قبل انفجار الأوضاع البائسة في اليمن كان أهل الثروة في «دول مجلس التعاون الخليجي» قد قرّروا حماية الذات بالاندفاع إلى الهجوم على «الخاصرة الرخوة» للانتفاضات فأوفدوا جيش «درع الجزيرة» للقضاء على هتاف الديموقراطية في البحرين، وبالمقابل أوفدوا من يلوّح بذهب الصناديق في المجلس لليمنيين، سلطة ومعارضة، بقصد التخلص من «الميدان» الذي أخذ يتنقل من صنعاء إلى تعز إلى الحديدة فتتردد أصداء المطالبة بالحرية والدولة بعد إسقاط النظام إلى بلادهم المقفلة بالذهب الأسود على الصمت الأبيض.

ليس هدف هذا الاستعراض لواقع الدول العربية التخفيف من وقع تلاشي الدولة في لبنان، بل للتأكيد أننا ما زلنا نعيش عموماً في عصر ما قبل الدولة التي لم يحدث مرة في أي مكان أو زمان أن جرى تلخيـصها أو تقزيمها في شخص.
ويمكن هنا استذكار طرفة الملك الشمس، لويس الرابع عشر، الذي كان يعتبر نفسه «الدولة»، ولم يستطع ورثته أن يتحمّلوا وطأة هذه التركة طويلاً فجاءت الثورة التي غيّرت تاريخ العالم بأسرع ممّا توقعوا وأقام الشعب دولته.

السابق
ابطال الفايسبوك
التالي
لبنان وسوريا.. طائف وطوائف