“شَرارة” بن جلّون في الربيع العربي

في خضمّ الأحداث التي يشهدها عالمنا العربي، أصدر الشاعر والروائي المغربي الفرانكفوني الطاهر بن جلوّن بحثا تحت عنوان "الشرارة" عن دار "غاليمار" الباريسية للنشر، حاول فيه تفسير الثورات العربية الأخيرة وكشف أسبابها وخلفيّاتها وحظوظها في النجاح.

وينطلق بن جلّون في بحثه من تفنيد الفكرة المتداولة في وسائل الإعلام الغربيّةعن "صَمت المثقفين العرب" حيال ما يحدث في بلدانهم، مبيّنا عدم صحتها ورفض مثقفينا العيش في الذلّ والاحتقار منذ أكثر من نصف قرن، على رغم كلفة هذا الرفض العالية: الموت أو سنوات طويلة من السجن والتعذيب البربري.

وفي هذا السياق، يشير بن جلّون إلى كتب كثيرة صدرت في عالمنا العربي عن موضوعات حسّاسة ومُنعت أو صودرت نسخها، وإلى جرأة بعض وسائل الإعلام في مصر ولبنان والجزائر والمغرب على وصف الأنظمة الديكتاتورية العربية وانتقادها في انتظام.

وقد مهّد ذلك وساهم بقوة في حلول "ربيع الثورات العربية" بطريقة ناضجة يشهد عليها خروج الناس إلى الشوارع عفويا، وإصرارهم على المضي حتى النهاية في ثورتهم من دون اتّباع أوامر أي زعيم أو رئيس حزب أو حركة دينية.

قيم جديدة

ويعتبر بن جلّون في بحثه أن "الربيع العربي" أثبت أيضا اندحار الحركات الأصولية الذي تجلّى في غياب مناضليها وارتباكهم، كأرباب السلطة، أمام حجم التظاهرات الشعبية التي رفعت فيها قيم جديدة قديمة، كالحرية والكرامة والعدالة والمساواة، لا علاقة لها بالخطاب الأصولي، وشعارات لم تتعرّض قط للآخر، الغريب، الغربي، أو حتى الإسرائيلي، ما يعكس إمساك الشعوب العربية بمصيرها هذه المرّة، وعزمهم على ركوب قطار الحداثة من دون استحضار أي حجّة أو عذر، ومن دون إشعار سائر العالم بالذنب.

وبعد فصلين طريفَين يتخيّل فيهما ما يدور حاليا في خلد كل من حسني مبارك وبن علي بعد سقوطهما، يعود الكاتب إلى "ربيعنا العربي" ليلاحظ عدم توافر أي ثورة مماثلة له في التاريخ الحديث، باستثناء "ثورة القرنفل" في البرتغال سنة ١٩٧٤.

وينتقد رؤساء الجمهوريات العربية الذين تصرفوا كملوك ذوي سلطة مطلقة، واستخدموا العنف والفساد والكذب والابتزاز للبقاء في سدّة الحكم، وحضروا أولادهم لخلافتهم، كحافظ الأسد ومعمّر القذافي ومبارك وصدام حسين، مرتكزين على مبدأ واحد: التصرف في السلطة، كما لو أن لا نهاية للعهد، شاء الشعب أم أبى.

وكي لا يثيروا حفيظة الغرب، حسب بن جلون، شيّد هؤلاء "ديمقراطيات شكلية هي كناية عن ديكور أو غمرة تُرمى في عيون المراقبين، بينما بقيت في الحقيقة جميع السلطات في أيديهم، فأجهضوا بالعنف أي معارضة لهم، وتمتّعوا بخيرات بلدهم، وعقدوا الصفقات، واغتنوا على حساب شعبهم.

وفي ضوء هذه المعطيات، يعتبر بن جلون ما يحصل اليوم من ثورات في عالمنا العربي نوعا من المعارضة الشعبية الواسعة التي اجتمعت تلقائيا لترفض، باسم الأخلاق، سلوك التسَلّط والفساد والإثراء غير المشروع والإذلال، وهي ثورات غير أيديولوجية بلا رأس يقودها ، بل ملايين من الناس العاديين الذين نزلوا إلى الشارع ليقولوا: كفى! ويكتبوا صفحات جديدة من تاريخهم، يوما بيوم، بلا تصوّر أو تصميم سابق أو تآمر.

ولتفسير تواطؤ الحكومات الأوروبية المتعاقبة مع الأنظمة العربية المستبدّة وغير الشعبية، يتوقف بن جلّون عند اعتقاد هذه الحكومات الخاطئ بأن مبارك وبن علي والأسد والقذافي هم ضرورة لعدم وصول الأصوليين إلى الحكم في عالمنا العربي.

كما يتوّقف عند العقود والصفقات التجارية مع هذه الأنظمة التي أسقطت من بال الأوروبيين مسألة حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، يرى بن جلون أن الثورات العربية سَجّلت على الأقل مكسبا واحدا يتمثل في عدم إمكانية العودة إلى الوراء وتكرار ما كان يحصل في السابق، إن كان ذلك داخل البلدان العربية أو خارجها.

السابق
أبي رميا: عون حليف الأميركيين في النضال ضد حزب اله
التالي
«إخوان» سورية ينتظرون في الحضن التركي عودتهم الى المعادلة … حكاماً أو شركاء