دروس لبنانية من الثورات العربية!

لا يكفي إطلاق بالونات التفاؤل بين حين وآخر، لتنفيس حالة التململ والغضب السائدة في الشارع اللبناني، بسبب العجز المتمادي عن تشكيل الحكومة العتيدة··،
ولا يجوز القفز فوق الميثاق والدستور، وتجاوز مبدأ الفصل بين السلطات، لتغطية تعثُّر التأليف الحكومي، عبر استحضار مفاجئ للمجلس النيابي،

ولا تنفع محاولات إشعال السجالات السياسية، و<اختراع> المعارك الوهمية، في إشغال الناس عن متابعة مسار الأزمة الحكومية وتداعياتها السلبية على حياتهم اليومية·

لعلّ المشكلة تكمن في أن القائمين على معالجة هذه الأزمة من أهل الحلّ والربط، ما زالوا يقرأون في كتاب الأمس وما قبله، متجاهلين تغيُّر الأحوال، ومنصرفين عن تبدُّل المعادلات، ومصرّين على عدم الاعتراف بما تفرزه الأحداث والتطورات السريعة، من وقائع على الأرض، لم يعد بمقدور أهل الحكمة والتبصّر عدم أخذها بعين الاعتبار!

أولى الحقائق التي لا بد من التوقف عندها، ومراجعة حسابات قوى 8 آذار على أساسها، هي التسليم بأن موازين القوى الإقليمية تهتزّ حالياً، وأن المعطيات التي سادت ردحاً من الزمن في الإقليم العربي، قد سقطت في بعض الدول، وهي في طريقها إلى السقوط في دول أخرى، وأن عصر التفرّد والهيمنة الى أفول، سواء على صعيد <الحزب الواحد> أم الرئيس الحاكم، وان الثورات المشتعلة في بعض انحاء العالم العربي سعياً وراء الحرية والديمقراطية تنادي بشراكة وطنية حقيقية، وبمشاركة فعّالة من مكونات المجتمع الوطني في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي·

واذا حاولنا تلخيص تفاصيل هذه المتغيرات تحت عنوان واحد، لرأينا ان ثورات الشباب تنادي بـ<حكومات وحدة وطنية> وبأنظمة سياسية تقوم على مبادئ الحرية والممارسة الديمقراطية الحقيقية، وتعتمد القواعد الديمقراطية السليمة، وفي مقدمتها التعددية والشفافية، والمساءلة التي يكفلها مبدأ الفصل بين السلطات!

* * * *

ويبدو ان الرئيسين ميشال سليمان ونجيب ميقاتي هما اكثر وعياً بهذه الحقائق الجديدة والوقائع المستجدة حولنا، من الاطراف السياسية الاخرى المعنية بتشكيل الحكومة الجديدة، وخاصة النائب ميشال عون·

ذلك ان رئيس التيار العوني ما زال يعتبر نفسه <الممثل الشرعي والوحيد> للمسيحيين في لبنان، وبالتالي فهو يطالب بالاستئثار بالحصة المسيحية في التركيبة الحكومية، تاركاً لرئيس الجمهورية، رغم ما يمثل في هرمية النظام السياسي الطائفي، الفتات من المقاعد الوزارية الخالية من اية حقيبة ذات وزن وفعالية!

وكذلك الحال بالنسبة لحزب الله وحركة <امل> في محاولتهما المستمرة على تشكيل حكومة من لون واحد، وبقيادة <الحزب القوي> غير عابئين بمواقف ومطالب النصف الآخر من الوطن، ودون اخذ الدروس والعبر من سقوط أنظمة الحزب الحاكم، وانهيار تجارب التفرد بالسلطة وحكومات الهيمنة على مقدرات البلاد والعباد في أكثر من دولة عربية!·

* * * *

كثيرة كانت الانتقادات لقيادات قوى 14 آذار، التي لم تلتقط اللحظة التاريخية، وتؤسس لجبهة سياسية عريضة تلتزم ببرنامج سياسي وطني واحد، يجمع بين أعداء الأمس القريب ويوحد اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، حول مجموعة من الأهداف الأساسية لبناء دولة قادرة على بسط شرعيتها على كافة الاراضي اللبنانية، وعلى إقامة سلطة عادلة تؤمن المساواة بين الناس، وتعتمد الكفاءة والنزاهة في مؤسساتها وإداراتها، بدل المحسوبية والطائفية التي ينخر سوسها، ليس بنية الدولة وحسب، بل عظام الوطن كله!·

ولكن تلك الانتقادات على قساوتها أحياناً، لم تمنع أصحابها من الاعتراف بالرؤية الوطنية التي تمسكت بها قوى 14 آذار، والتي كانت تحرص دائماً على مراعاة الشريك الآخر في الوطن، وعلى ضرورة ترجمة الشراكة في <حكومات وحدة وطنية> رغم كل الضغوطات والممارسات العرجاء التي كان تُقدم عليها قوى 8 آذار، بدءاً من الانسحاب من حكومة السنيورة الأولى، وصولاً إلى حالة التعطيل التي سادت حكومة الحريري الأخيرة، ثم الاطاحة بها عبر استقالة <الثلث الضامن> خلافاً لما نص عليه أحد بنود اتفاق الدوحة·

فلماذا تمعن قوى 8 آذار في تجاهل الشريك الآخر الذي يمثل اليوم نصف البلد، وقد يزيد غداً قليلاً عن النصف؟! في مرحلة يعود فيها العديد من الدول العربية إلى أنظمة المشاركة الواسعة بين مختلف مكونات المجتمع السياسي، بعدما ثبت عجز أنظمة وحكومات اللون الواحد عن مواكبة مسيرة التطوير والتحديث والتنمية التي نحتاجها البلدان العربية؟!

إن المرحلة العصيبة التي يجتازها الاقليم العربي، والاخطار المحدقة بالوضع اللبناني، نتيجة تراجع وجود الدولة وفعاليتها في الفترة الاخيرة، تفرض على كل الاطراف السياسية في جبهتي 14 و8 آذار، وخاصة على الأخيرة، الترفع عن الخصومات السياسية، ومغادرة الحساسيات الفئوية والحزبية، والتطلع الى خطوة بحجم مبادرة وطنية كبيرة، تعيد البلد من جديد إلى سكة التوازن رالتلاحم ، وتضع حدّاً لحالة الخلل الوطني والاختلال السياسي، بما يؤدي الى تحصين الوطن الصغير من العاصفة السياسية التي تضرب المنطقة، وتهدد بتحويل مسار الانتفاضات والثورات عن أهدافها الوطنية، بهدف اغراق البلدان العربية وشعوبها في دوامة حروب داخلية وفتن طائفية ومذهبية، تأكل الأخضر واليابس·

لا ضرورة للتأكيد مرة اخرى، ان العدو الصهيوني هو المستفيد الأول والأخير من اشعال نيران الفتن في الجسم العربي، بعدما اثبتت المواجهات الدامية في غزة وجنوب لبنان والجولان، ان شباب <النكسة> يرفضون التسليم للهزيمة أمام الإسرائيلي الغاصب، وهم يجددون عهد المواجهة المباشرة بصدورهم العارية، وبدمائهم الزكية·

فهل من يلتقط رسالة الشباب في لبنان أيضاً·· وقبل فوات الأوان؟

السابق
اللواء: الحكومة بين التشاؤم والتفاؤل … وأزمة الثقة تستولد العقد!
التالي
الانباء: حزب الله يضخ التفاؤل بتشكيل الحكومة وميقاتي على حذره