أبجدية الكفر بالحب

مع امرأة مثلي، يصير الحب أحياناً ضرباً من ضروب الانتحار. كيف لا وأنا أحب بجوارح عمرها 40 ألف عام! على مذبح خصب قديم مخبأ في رحم شجرة اللوز الكبيرة، قرب بئر جدي، تمّت عمادتي الأولى، على دين عشتار الواحدة. عقدت أمري، لا رجعة ولا مناصّ منه، لقد ولدت أنثى… والدعوة أغلقت.

حالة الحب الفطرية تحاصرني بضراوة، تجدد فيّ عذرية الكلمة مع كل اكتمالة قمر وغروب شمس. حب أمتي يحرضني على الحياة، وحبه «هو» يحرّض فيَّ نزعتي «الدينية» المتطرفة فأغدو مجبرة على ضرب من ضروب «الشُّرك». ترتادني الريبة وتلاحقني كفارس عنيد يعاقر النزال مذهباً، يحاصرني بين شرود وسهوة. «كيف لك أن تشركي مع حب سورية حباً جديداً»؟ وكيف يكون للحب اسمان وعنوانان وصلاتان مختلفتان؟ لا بل قد يكون لهما عقيدتان متناقضتان!
مذ وقعت رائحته مصادفةً عند مجرى روحي، استوطن منها قبيلة متوحشة في مملكتي الآمنة. بدأ الأمر يختلط عليّ. لم تنجح معي جرعات الهرب واللامبالاة وتنشّق الروائح الأخرى. أصبح الأمر واقعاً ونفسي متعبة تحاول ردعي عن كفر محتم. ذلك أنني وجدت نفسي مراراً متلبّسة بنوبات من الفضول لسهر ليله، وأمواج من الشوق العارم الذي يرمي بي على أول حجة أو حاجة لاستفزاز صوته أو استمالة كلماته أو حتى فرض ضرورة للقائه.

في البداية رحت أفتش عن حبيبته بين نساء عرفهن ونساء لم يعرفهن. رحت ألملم صورتها وأجمع كيانها تارة من افتراضاتي وطوراً من لمعة عينيه الثاقبتين، لأحقق عبر ذلك وجوداً كاملاً لامرأة أخرى عساها تنجح في ردعي عن هذه المعركة المؤكدة. تراني دائماً حذرة إزاء دموع النساء واحترام حدود ممالكهن، لكن ليس أكثر حذراً من مغبة الوقوع في مقبرة المرتبة الثانية، دين عشتار يحرم عليّ الحكم في مملكة بنيت لامرأة أخرى. «الترهب» في مذهبي هو رفض الدور البديل لامرأة فشلت في إدارة عرشها ولم تترك في حبيبها إلا حطام الخرائب. وقتي أضيق من بناء مملكة جديدة على أرضه، وحبّي أكبر من مغريات التنازلات.

مسكونة بشبح تلك الملكة الفاشلة، أتعايش مع أيامي «البيروتية» بصعوبة ومحكومة بحب غريب يناكد عقيدة «توحيدي». عبثاً أحاول ابتداع الحلول. كيف لي أن أشفى من عطر نرجسه يسابق أنفاسي إلى الصعود، وكيف لشخصية متطرّفة مثلي أن تمارس ثنائية العشقين؟ في وجهه الصارم المتلبّس كل أنواع الاحتمالات. أبحث كل مرة أتحسس وجهه عن سبب للرحيل، أبحث عنها في كل ابتسامة منه، في كل نفس في كل كلمة، علها تلامس أخلاقي النسوية، تقصيني عنه وتربح المعركة. ألم الرحيل أحب على قلبي من ممارسة «خطيئة» البقاء.

دائماً، ألتقي طيفها متلبّساً عينيه، لكنه سرعان ما يفر هارباً. هذا الطيف الجبان. أقول إنها ساعة الحسم، لكن سرعان ما تهزّني نوبة متجدّدة من العشق المجنون وغير المكترث بالعواقب. كعادته، يأتيني مثل موجة رعد طفولية غاضبة ترميني على أول الطريق من جديد، ويعيد الحوار نفسه بيني وبين ذاتي، رغم أنني على تصالح مطلق مع نفسي، حتى أننا اتفقنا على جنس الملائكة منذ زمن. لكن هذا الفارس الممشوق من رحم سورية خلق بيننا خلافاً صعباً وحواراً. يبدو لي في معظم الأحيان أنه حوار مستحيل.

كيف لي أن أحبه أكثر، أن أحقق عبوري إلى ما بعد تقديسه، إلى ما بعد الصلاة بين مخدع منكبيه، إلى أعمق من حلوله في أنفاسي؟ كيف أقتله بعد اليوم وكيف أخلص روحي من نفسها؟ إنه حقاً لانتحار. وكيف لي أن أتخذ إلى جانب سورية حباً، أو أن أنكث عهودي وأقبل على نفسي شهوة «الاستعمار» المذكرة، وأحل ملكة على عرش لم يكن يوماً لي!

هل أصلّي كعشتارية في مهجع مخاض ولادة مقدس أم أتلو ترنيمة بين شفتيه الديكتاتوريتين! هل أمارس صيام «رهبانية» الانتماء القومي المقدس في يوم مولدي أم أمارس عذرية الاستسلام لجسده العذب! هل أحيا نبضات أمتي بين ضلوعي أم أغفو على نبضات قلبه الثائر؟ هل أطرده مني وهو فيّ عمر أصيل!

وبعد عناء، سأسأل حتماً، ماذا لو كان هو ذاته حفنة من روح أمتي ووجهاً من وجوه عشتار، وشكلاً من أشكال خصبي، وكلمة في قسم انتمائي، وخلاصة من حب سورية، وامتداداً حراً لأرض فلسطين وشريكاً جديراً لشرف استشهادي! ماذا لو كان كل ذاك ولم يكن لي؟ هل سألام إن اغتلت الرجال في ذاتي وعزفت عن الحب بعده؟!

السابق
صور: احتفال بـجسور الصداقة الدائمة
التالي
يوم ترفيهي في مقر الكتيبة الإيطالية